* النظام لم يتغير إنما آليات عمله تآكلت عاد رئيس الحكومة الأسبق، مولود حمروش، في هذا الحوار الذي خص به “الخبر”، إلى خرجاته الأخيرة، قبل أيام من رئاسيات 2014، للتأكيد أن الجزائر تعيش وضعا مأساويا، والسلطة غير قادرة على معالجته، ما دفعه إلى إثارة مواضيع جوهرية، لاسيما قضية تعديل الدستور، معرجا على قضية ترشحه لمنصب القاضي الأول في البلاد، وملفات أخرى. أصدرت الشهر الماضي بيانين، أثارا تأويلات كثيرة وفسَّرهما البعض على أنهما كانا تعبيرا عن رغبتك في الترشح للانتخابات المقبلة. إلى أي مدى ذلك صحيح؟ الوضع المأساوي الذي تعيشه البلاد وتقلص قدرة السلطة على معالجته، كان من بين الأسباب التي دفعتني إلى التدخل رغبة في إثارة المواضيع الجوهرية التي تتعلق بمصير الجزائر والدفع بها إلى صدارة الاهتمام. في 2004 أصدرت بيانا مطولا حول الوضع آنذاك، ولم أتدخل بمناسبة تعديل الدستور في 2008 لسبب مفهوم، هو أن من أشرف على صياغة دستور 1989 وأسهم في إثراء وثيقة دستور 1996 بقوة، حتى أن الصحافة قالت إني اقترحت مشروعا بديلا للمشروع الرئاسي آنذاك، لا يمكن لهذا الشخص أن يساهم في نقاش حول العودة بشكل مؤكد لدستور 1976 منقوصا من الإيديولوجية ومن مشروع وطني للتنمية. ألم يكن مهمّا أن تعطي رأيك في التعديل الدستوري ل2008، ولو للتاريخ؟ ليس مفيدا ولو للتاريخ.. نحن اليوم أمام وضع خطير لا يسمح بالتعاطي معه بلغة أدبية تحمل إيهامات أو محاولة اللف حول جوهر المواضيع المطروحة على البلاد، لاسيما إذا أخذنا بعين الاعتبار ما جرى ويجري في بلدان مجاورة. تلك هي الإشكالية. هل يمكن تفسير هذا التدخل على أنه نية في الترشح للرئاسة؟ الأمر لم يكن كذلك أبدا، وعلى ذكر الترشح هناك خطاب يخصني، متداول في الإعلام ولكن بشكل مبتور. ففي 1995 قلت في تصريح صحفي: لن أترشح إذا كان للجيش مرشح وقلت لن أترشح لانتخابات نتائجها مرتبة مسبقا، وأضفت لن أترشح إذا ترشح الرئيس اليمين زروال لأننا من جيل واحد. واليوم يتم تداول هذه المقولة مبتورة أوحت بأن حمروش ينتظر أن يكون مرشح الجيش. وهذه تشبه: “ويل للمصلين”. أعطيت قراءة لحديثكم عن عدم ترشحكم إذا كان للجيش مرشح، مفادها: إني هنا إذا لم يكن لديكم مرشح. إلى أي مدى ذلك صحيح؟ صحيح أن هذه القراءة أعطيت لتصريحي، أما موقفي من مسألة الترشح فواضح. ففي انتخابات 1999 كان هناك رجال مخلصون أقوياء وصفوا ب “الفرسان”، حاولوا دخول الانتخابات، رغم أن خيار الجيش حول مرشح معين كان واضحا. هؤلاء الوطنيون قرروا دخول الانتخابات لكسر الغلق الانتخابي وقد نجحوا في جعل الترشح مفتوحا والحملة الانتخابية مفتوحة، ولكن للأسف الاقتراع كان مغلقا. فكان الانسحاب من جانبنا، لقد حاولنا أن ندفع النظام إلى تنظيم انتخابات مفتوحة ولو جزئيا. لكنك تعرف النظام وتدرك آليات عمله من الداخل، وكنت تعرف في 1999 بأن الجيش اختار مرشحه وهو بوتفليقة، فلماذا شاركت إذن في انتخابات معروفة النتيجة مسبقا؟ صحيح كنت أعلم بأن للجيش مرشحه، ولكن قلت ومعي بقية المترشحين، لعلنا نتمكن من أن ندفع النظام إلى القبول بحد أدنى من الشفافية والانفتاح. وكان هدفنا أن تخطو البلاد خطوة نحو التمرن على الانتخابات المفتوحة وقبول فكرة إعطاء فرصة للجزائريين للمشاركة. ذلك لم يتحقق للأسف. تحاشيت في ندوتك الصحفية الأخيرة تقييم سنوات حكم بوتفليقة، لماذا؟ في كل أدبياتي أنا أتكلم عن النظام وليس عن الأشخاص. ولكن بوتفليقة الرئيس هو واجهة النظام.. صحيح هو واجهة النظام، غير أن هناك نظاما قائما بأسلوبه وفكره والرئيس جزء منه، وله مسؤولية في النظام ولكنه ليس مسؤولا وحده. في أحد التصريحات قلت إن رحيل الرئيس لا يشكل حلا ولكن كل حل يبدأ حتما بذهاب الرئيس. وحتى لو عاد من جديد فسيعود بطريقة أخرى تختلف عن الطريقة التي وصل بها إلى سدة الرئاسة. حتى أن الحديث عن وصول الرئيس إلى سدة الحكم ينطوي على مبالغة، والأصح أن نقول إنه أوصل إلى الرئاسة. قلت في ندوتك الصحفية إن الانتخابات المقبلة تقوم على الإقصاء، ماذا يعني ذلك؟ آلية الانتخابات في الجزائر طبيعتها الإقصاء، بمعنى لا يوجد خيار سياسي. أي أنك إذا قررت الذهاب إلى انتخابات فأنت مطالب بأن تصادق على شيء مقرر سلفا، وهذا إقصاء لرأيك. بعبارة أوضح يطلب النظام منك المصادقة على خيار مسبق، نحن اليوم في نفس وضعية 2009 ووضعية 2004 وما قبل 2004، أي أن الشعب مطالب بأن يصادق بالانتخاب على رئيس لا أن يختار رئيسه، أي أن حق الاختيار غير متوفر. وهذا ما قصدته بحديثي عن كون الانتخابات آلية إقصاء. بهذا المفهوم أنت توافق الرأي الذي يقول بأن النظام يتيح للمواطن اختيار نائبه في البرلمان وممثله في البلدية في حدود معينة، أما أن يختار رئيسه فهذا لن يكون.. شروط الاختيار الحر غير متوفرة. وحتى لو افترضنا توفر آلية اختيار الرئيس بحرية في ظل النظام القائم، إلا أنه مع غياب المؤسسات الدستورية وآليات ممارسة السلطة في كل المستويات وغياب سلطات مضادة، يصبح من المستحيل تنظيم انتخابات حقيقية لاسيما تحمُّل نتائجها؟ معطيات الوضع في نظري معقدة جدا، إذ هناك إيحاء متعمد بأن الرئيس سيكون هو القاضي الأول والإمام الأول والاقتصادي الأول، هو مسؤول الأمن الأول وهو رجل الدفاع الأول .. وهذه ليست موجودة حتى في منطق الفرعون.. هل كان هذا المنطق سائدا من قبل، أم أنه تكرَس بعد التعديل الدستوري في 2008؟ هذا الأمر تكرّس وتعمق بسبب الأزمة. هل مازلنا في أزمة؟ عمليا منذ سنة ونصف رفعت حالة الطوارئ إيذانا بانتهاء هذه الأزمة، وما دام الأمر كذلك، كان من المفروض إلغاء القوانين الاستثنائية والعمل بالقوانين العادية والعودة إلى العمل السياسي المفتوح، غير أن هذا لم يتم. الكثير استغرب دعوتك الجيش إلى أن يؤدي دورا في المشهد السياسي. كيف يجوز إقحام الجيش في الصراع السياسي بينما الأصل أن يبقى في حدود مهامه المحددة دستوريا؟ لا يوجد في الجزائر إلا شرعية وحيدة، هي شرعية الجيش الذي يضفى نوعا من الشرعية على كل المسؤولين. تقصد الجيش باعتباره مؤسسة أم قادة ومسؤولين؟ أقصد الجيش باعتباره مؤسسة يقودها أشخاص، من دون الخوض في تفاصيل سير هذه المؤسسة ومسائلها الداخلية. وقد فوجئت باتهامي من قبل البعض بأني أسعى إلى إقحام الجيش في العمل السياسي. الواقع أن النخبة الحالية قد وصلت إلى الحكم عن طريق الجيش وبمساندته. أليس هذا المنطق محاولة لتحييد الجيش وإبعاده عن التأثير فيما يجري في الحكم، بإيهام الناس بأنه لم يعد يملك حق القرار. صحيح أن عهد الانقلابات انتهى، وأنا لم أدع أبدا إلى الانقلاب بل على العكس دعوت إلى الانضباط ووحدة الصف. الآن هناك مغالطة من البعض، فالمعروف أن من يدعي هذا لا يتمتع بأي شرعية إلا بما أمده الجيش به من شرعية. أنت تقصد رئيس الجمهورية، فلماذا لا تذكره بشكل صريح؟ أقصد رئيس الجمهورية وغيره، ولكن أنا أتحدث عن نظام قائم وأتحدث عن حصيلة نظام وليس عن شخص. الرئيس أجرى في سبتمبر الماضي تغييرات في المؤسسة العسكرية، فسّرت على أنها “تقليم لأظافر العسكر” حتى لا يكون لهم أي دور في المرحلة المقبلة. هل هذا صحيح برأيك؟ في الغالب لا أحكم على الأقوال والتصريحات والتفسيرات، رأيي مؤسس على الأفعال. إذا كان صحيحا ما تفضلت به فنحن أمام نوع من الديكتاتورية الجديدة خارج الجيش، وفي هذه الحالة من حق الشعب الجزائري أن يعرف من يمارس السلطة باسمه. وإذا كان هذا الكلام للاستهلاك فقط، أقول إنها حيلة لن تنطلي على أحد. البلاد برأيي تواجه وضعا خطيرا، وتتخبط في أزمة طال أمدها وترتب عليها الكثير من الأمراض مست مؤسسات جوهرية، ومست عمل الإدارات الحكومية إلى درجة أن الحكومات المتعاقبة عجزت عن إدارة شؤون البلاد وعن تنفيذ قراراتها. والأدهى من كل هذا أن أدوات الرقابة ألغيت، والحكومة غير قادرة على إقامة رقابة على أعمال إداراتها، فما بالك بالمؤسسات الدستورية الأخرى، كالمجلس الدستوري ومجلس الأمة والمجلس الشعبي الوطني ومجلس المحاسبة وغيرها من المؤسسات التي توجد في حالة عجز تام عن القيام بأي عمل رقابي. ألا تعتقد أن كل ما ذكرته جاء نتيجة احتكار السلطة بناء على التعديل الدستوري في 2008؟ هذا كان موجودا قبل 2008، الوهن بدأ قبل تعديل الدستور. وفي آخر المطاف مثلا كل رؤساء الحكومات الذين تعاقبوا منذ 1999، قبلوا أن يكونوا أجهزة تنفيذية وليس سلطة تنفيذية. بل قبلوا، في مخالفة لأحكام الدستور، أن يكونوا مجرد منسقين لعمل الوزراء. هل ترى أن العهدة الثالثة كانت الخطوة التي ما كان على بوتفليقة أن يتخذها، تفاديا لاختزال البلد بكامله في شخصه؟ أنا لا أريد تشخيص الأشياء، وأفضَل أن أقول إن هذا النظام في حد ذاته ما كان ينبغي أن يستمر أكثر مما استمر، لذلك لابد من التغيير. فالبلاد في حاجة إلى مؤسسات جديدة تعمل بآليات ديمقراطية وقانونية وتكون عاكسة لكل مكونات المجتمع وتطلعاته ومصالحه، وتكون لها صلاحيات تمس كل المجالات. ففي الجزائر اليوم برلمانيون بألوان وأطياف مختلفة، لكنها لا تملك برلمانا. ولديها وزراء ووزير أول ولكنها لا تتوفر على حكومة، وهذه مشكلة خطيرة جدا. فلماذا الإصرار على إطالة عمر الأزمة، وما أسباب العجز عن حلها؟ هناك أطراف في المستويات العليا توهم الناس بأن الأزمة انتهت، وفي الوقت نفسه تتذرع بكون استقرار البلاد مهدد إذا تم أي تغيير. هل هذا يعني حتمية العيش باستمرار في الأزمة؟! بهذا المنطق فإن الشاب الجزائري الذي عمره 30 سنة أو أقل، نشأ وترعرع داخل الأزمة يبدو أن عليه ألا ينتظر نهاية لها. أما إذا كانت الأزمة قد انتهت، كما يزعم النظام أحيانا، فلماذا الاستمرار في تكريس أدوات الأزمة والعمل بها؟! بالمختصر أنت ترى أن استمرار النظام بواجهته الحالية، هو إطالة لعمر الأزمة.. استمرار النظام بآليات عمله الحالية، بغض النظر عن الواجهة، استمرار للأزمة. هذه هي الإشكالية المركزية. صحيح أن البلاد واجهت أزمة أمنية خطيرة تصدى لها الجيش وحاول المسؤولون المتعاقبون، كل بجهدهم وقدرتهم واجتهادهم، مواجهتها، غير أن الأزمة التي طال أمدها، صارت غطاء وتبريرا لنقائص وعيوب وأمراض ولما وصف بالفساد داخل أجهزة الحكم. ومازال هذا النهج مستمرا ويحاول تقييد النقد ومنع التغيير، بحجة أننا في أزمة ولا ينبغي، حسبهم، إضعاف الجبهة الداخلية. نحن الآن على مشارف ربع قرن من عمر الأزمة، ونحن أمام انسداد خانق وأمام مآزق متعددة أفرزتها هذه الأزمة بل ستستمر في إفراز مآزق أخرى. هذا الوضع يجعل أي مقاربة لحل الأزمة مستحيلة. ما هو الحل إذن، إذا كان غير متاح من داخل النظام؟ أقول إن المجموعة التي تتولى الآن إدارة شؤون البلاد، ليس بمقدورها إنتاج حل لوحدها. فهي إما توحي بأنها غير قادرة على صياغة حلول وتنفيذها أو أنها غير قادرة على ذلك فعلا أو أنها لا ترغب في ذلك. لذلك قلت بأن تجاوز الأزمة غير ممكن من دون مشاركة المؤسسة العسكرية ومرافقتها، فالبلاد في حاجة إلى الجيش في مرحلة صياغة الحل وتنفيذه وإضفاء شرعية على الذين يشرفون على التنفيذ، سواء أكانوا من داخل النظام أو من خارجه. ما الذي يدفع النظام إلى التغيير، بمعنى كيف يعقل أن يتخذ قرارا بترحيل نفسه؟! الوضع العام يوحي بأن إرادة التغيير غير متوفرة، لهذا نبهت لمحاولة إبعاد الجيش بذريعة أن لديه مهام أخرى. هذا القول كان يمكن أن يكون صحيحا لو كنا في وضع ديمقراطي. الجيش الوطني الشعبي سليل جيش التحرير مازال هو حامل المشروع الوطني، ولا يوجد في الساحة السياسية اليوم حزب في مستوى حمل هذه المسؤولية، سواء في الموالاة أو في المعارضة. إن الظروف السياسية والأمنية التي مرت بها البلاد مدة 20 سنة، حرمت العمل السياسي والنضالي من الارتقاء إلى هذه المسؤولية. والذين يقولون إني أسعى لإقحام الجيش في السياسة، أسألهم: على من نعتمد لإحداث التغيير؟ هل تعتقد أن الجيش مازالت له كلمة في اتخاذ القرار، في ظل الهيمنة التي فرضها الرئيس وجماعته على الحكم؟ لا ليس بهذا الشكل. جيشنا قوي بانضباطه وبالبرنامج الذي يؤمن به المرتكز على الوحدة وعلى الهوية والمشروع الوطني. الجيش قوي بمساندة الشعب. وعندما يتعلق الأمر بحماية المشروع الوطني وتجسيده ببناء دولة المؤسسات العصرية، أنا متأكد أن أغلبية الجزائريين سيساندونه في هذا المسعى. تبعا لهذه النظرة، هل تعتقد أن بوتفليقة متوجه إلى عهدة رابعة بمباركة من الجيش أو بالتوافق معه؟ لا أريد أن أقحم نفسي في هذا الجدل، ما أقوله إن نظامنا السياسي أقامه الجيش بمشاركة الجميع، وكانت هناك محاولات لتغييره أو تطويره في مراحل مختلفة. الآن لا أحد يستطيع إقناع جل الجزائريين بأن من يتولون إدارة شؤون البلاد يملكون شرعية أقوى من الجيش. هذه حقيقة قد تزعج البعض ولكني لا أتقن فن إيهام الناس. هذا الكلام يقوله مولود حمروش الذي كان سابقا في قلب النظام، أما الآن فهو خارجه، فكيف له أن يجزم بأن الجماعة التي تحكم الآن ليست أقوى من الجيش؟ النظام لم يتغير إنما آليات عمله تآكلت، فلا هو احتفظ بآليات عمل النظام الأحادي ولا هو ارتقى إلى نظام ديمقراطي. واليوم كيف هو الوضع في قمة هرم النظام وكيف يتخذ القرار؟ اليوم تتضاءل فضاءات إعداد القرارات واتخاذها بشكل مستمر. هل تعتقد أن المال ومن يملكونه هم من يتخذون القرارات في الدولة حاليا؟ العيب ليس في المال، بل في التصرف السيئ بالمال. هل الحاشية الضيقة التي تحيط بالرئيس هي التي صنعت سيناريو 17 أفريل بالشكل الذي هو عليه حاليا؟ يعيدني هذا إلى نقطة أساسية أريد التأكيد عليها. أقول ما زلنا نعيش أزمة شرعية وأزمة مؤسسات وأزمة أداء حكومي وغياب تحديد المهام والمسؤوليات وغياب آليات رقابة وغياب سلطات مضادة، غياب كل هذا منع المواطنين من الانتظام سياسيا ومنع المجتمع من إنتاج مؤسسات اجتماعية. وضع كهذا لا يمكن من الحديث جديا عن مجتمع فاعل وعن أحزاب مؤثرة. لهذا فحزب الأغلبية اليوم ليس له أي تأثير لا على الحكومة ولا على القرارات السياسية ولا على الرقابة، إذا لا معنى سياسيا لوجود أغلبية ولا لتعددية حزبية في مثل هذا الوضع. لقد سبق أن قلت إن في هذه الأزمة أطرافا خائفة أو تتوجس من أن تجاوز الأزمة قد ينهي نفوذها ويطعن في مكتسباتها، ولهذا أصررت في البيان الأول على حفظ حقوق الجميع، عند الشروع في التحول إلى مؤسسات ديمقراطية لنظام حكم في دولة عصرية. كيف ذلك؟ من خلال إعادة الاعتبار للدولة ولمؤسسات الدولة، والعودة إلى وضع سيادة القانون وإعادة الاعتبار أيضا للإدارات الدائمة ذات السيادة. هذه الإدارات الوطنية، مثل الجمارك والضرائب وغيرها، وهي إدارات ذات سيادة تمارس صلاحياتها ليس بمرسوم التعيين ولكن بحكم القانون وليس بتعليمات الوزير أو الرئيس، لم تعد هذه المؤسسات قادرة على ممارسة اختصاصاتها وعلى أداء دورها. هذا الوضع لا يمكن أن يستمر. واضح أن النظام قد اختار السيناريو الذي يلائمه للرئاسيات المقبلة، هل تتصور سقوطا لمنظومة الحكم إثر هذه الخيارات؟ النظام بالمنهج الذي سار ويسير به، وبالأشخاص الذين يشكلونه وبالتفكير والثقافة التي هي ثقافته، وصل موضوعيا إلى مراحله النهائية. قد يستطيع أن يرفض التغيير أو يتجبر في محاولة تأجيل تلك النهاية، بكسب أسبوع أو شهر أو حتى عام. توجهت بهذه المعاينة إلى كل مكونات هذا النظام وإلى كل العقول من مختلف الاتجاهات ولكل الأطراف، داخل المؤسسات وخارجها. لقد قلت لا ينبغي أن نظل في حالة لامبالاة إلى غاية حدوث الانهيار، علينا السعي، من الآن، لتفاديه بالشروع العاجل في بناء نظام جديد وفي بناء جزائر حديثة. التجارب واضحة أمامنا، وحدها الدول الديمقراطية لها جيش قوي ومنتصر ولها اقتصاد قوي ولها مجتمع قوي ولها مواطنون متمسكون بالهوية وبالدولة، بالاستقرار وبالمؤسسات. وحده النظام الديمقراطي يوفر للمجتمع فرص تجديد نفسه وتجديد الأفكار والمناهج وترقية قدراته وتصحيح الاختلالات. الملاحظ أيضا أن المجتمعات الديمقراطية هي التي تنتج أكبر حجم من الاختراعات وهي التي تتمكن بيسر من حل أعقد مشاكلها ومعضلاتها، بينما تعجز المجتمعات المغلقة عن حل أبسط مشاكلها ويستعصي عليها رفع أبسط التحديات. في بيانك الأول استعملت مصطلحات غير معهودة في خطابك، تحدثت عن مجموعات وأقليات ومناطق، ما معنى هذا الكلام؟ سؤالكم يعيدني مرة أخرى لقضية الشرعية وقضية الهوية الوطنية والمشروع الوطني. إن حرب التحرير ساهم فيها سكان كل مناطق البلاد، ومساهمتهم تمت تحت عنوان واحد: أنا جزائري، وأريد استقلال الجزائر وحرية الجزائر، ووراء هذا وذاك مشروع بناء دولة وطنية. عندما أذكر بهذا، فإني أحاول في الواقع أن أنبه لخطر أفرزته طبيعة نظام الحكم الذي اعتاد على اختيار رجل يوليه مسؤوليات سامية ويمنحه شكليا سلطات واسعة ودون حسيب أو رقيب، بغض النظر عن قدرته على ممارستها، وبغض النظر عن قوة شخصيته وإلمامه بإدارة شؤون البلاد، هذا الخطر يبرز اليوم، أكثر من أي وقت مضى، في صعوبة التوافق على ذلك الاختيار. اختيار أصبح يغذي الجهوية والنعرات والتوجس من مواطني المناطق الأخرى. إذا لم نفصل اليوم في هذه القضية فستواجه البلاد مخاطر. لا يهم ألا نفصل فيها قبل 17 أفريل، لكن ينبغي أن نعكف على حلها وتجاوزها في أقرب الآجال. وهنا أكرر يجب أن نفصل في هذه القضايا الأساسية بعد الرئاسيات، بمعنى أن عملية اختيار المسؤولين لا يمكن أن تبقى من اختصاص دائرة ضيقة. ولكي يتحقق ذلك يجب تبنى مشروع بناء صرح مؤسساتي جديد، يمنح المواطنين جميعا، ومن كل المناطق، الحق في تولي كل المناصب السامية عبر آليات ديمقراطية تراعي تمثيل كل جهات البلاد. في المجتمعات الديمقراطية لا يطرح سؤال كهذا، لأن آليات صناعة القيادات والنخب السياسية تتم عبر آليات اجتماعية. هناك إحساس بأن مسقط الرأس بات مشكلا في بلادنا. أشيع عن وجود اتصالات بينك وبين جهة تمثل رئيس الجمهورية، مضمونها أنك ستتولى منصب نائب للرئيس في تعديل دستوري بعد الرئاسيات. هل هذا صحيح؟ تدخل مثل هذه الإشاعات في منطق النظام القائم. وإذا جادلت فيها فمعنى ذلك أني مقتنع بأن النظام مازالت لديه قدرة الفعل وقدرة القرار ومازالت لديه قدرة على تجسيد البرامج وإدارة البلاد. وعلى ذكر هذه الإشاعات المروجة، بغض النظر عما إذا كان الهدف منها كسب ولاءات أو أنها نابعة من وجود نية حقيقية في إنشاء منصب نائب الرئيس، أقول شيئا أساسيا، منصب نائب الرئيس في منطق مثل هذه الأنظمة، كان موجودا فقط في بعض البلدان العربية، حيث وجد لفترة في العراق وفي سوريا وفي مصر وانتهى كما نعلم لأزمات أنهت وجوده. الرئاسة في الجزائر، حتى قبل الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، كانت تواجه صعوبة في التعايش مع منصب رئيس حكومة بصلاحيات دستورية، وبالفعل الرئيس بوتفليقة وحتى قبل تعديل الدستور، اتفق مع رؤساء الحكومات الذين عيّنهم على أنه يلغي منصب رئيس الحكومة ويكتفي بدور وزير أول مكلف بتنسيق عمل الوزراء. حتى بن بيتور معني بهذا التحليل؟ بل حتى قبل السيد أحمد بن بيتور، هذا يعني أن الرئيس تجاوز الدستور برضا رؤساء الحكومات الذين تولوا تلك المناصب معه. كيف تفسر هذا الجانب في الذين يمسكون بالحكم، هل هي ذهنية تسلط أم الرغبة في تصفية حسابات موروثة من الماضي؟ الجواب بسيط، إننا بلد متخلف ثقافيا، ونعاني بالتالي نقصا في الوعي السياسي، وهذا ما تسبب في تقلص الفعل السياسي منذ بداية الأزمة، كما تسبب في فقر الفكر السياسي. بماذا تفسر حالة القبول العامة على مستوى الأحزاب والمجتمع المدني والمؤسسات بالوضع الحالي بما فيه من عيوب؟ حالة القبول ناتجة عن إيحاء النظام بأنه مازال في مواجهة الأزمة. والإيحاء بأن أي تحرك وأي فعل معارض سيزيد من عمقها ويؤدي إلى تهديد الاستقرار والأمن الوطني. وهناك من يوحي اليوم أيضا بأن الخروج من الأزمة يعني العودة إلى الوراء أو التوجه نحو المجهول، والبديل الوحيد هو الاستمرار في الوضع القائم بما يعني الاستمرار في الأزمة. لهذا أقول إن الخروج من الأزمة لا يعني العودة إلى الوراء بل الاتجاه نحو بناء جديد و لهذا لا بد من إنهاء الأزمة. من المستفيد من استمرار الوضع على حاله؟ قلت إن الأزمة التي مررنا بها أفرزت أوضاعا جديدة تغذت من ثلاثة عوامل: التعسف في استخدام السلطة، تجاوز القانون وتوسع فضاءات اللاقانون. اليوم من مصلحة الجميع أن نتجه إلى أوضاع جديدة ونعود لحالة القانون وشرعية الأعمال دون العودة إلى الوراء وبقواعد واضحة تحمي الجميع، ولكن شرط أن نحمي المجتمع ككل ونتجه لمستقبل واضح يمنح الفرص للجميع وبمشاهد مرتبة، داخل النظام وبمساندة الجيش وخارج النظام بمساهمة كل من لهم رغبة وقدرة التأثير على الرأي العام. أبدى الرئيس السابق اليمين زروال معارضة للعهدة الرابعة، كيف قرأت رسالته؟ بالتأكيد، الرئيس زروال رجل واع بما يجري وواع بمعطيات الظرف الذي تمر به البلاد وله مصادره، وبالتأكيد عليه ضغوط من رفاقه السابقين ومن محيطه. لكن بغض النظر عن الجانب الذي تفضلتم به في السؤال، أقول إننا نتفق على ضرورة أن نتجه نحو بناء سياسي مؤسساتي جديد، وعلى المضمون الذي حدده للعهدة الرئاسية المقبلة، أي الانطلاق في بناء وفاق وطني جديد، مبني أساسا على ثلاثة أشياء لا نقاش فيها: الهوية والمشروع الوطني وأمن البلاد الذي يتولاه الجيش والمؤسسات الأمنية. هل هذه الثلاثية التي ذكرتها تتجسد في دستور أم في ماذا؟ المشكل ليس في صياغة دستور، بل في آليات التوصل إلى توافق حول طبيعة الحكم ونمط إدارة المجتمع الجزائري. أي التوافق على شكل الحكم الملائم ومناقشة تعزيز أركان الدولة وتوزيع السلطات والصلاحيات ووضع أدوات الرقابة الدستورية والقانونية وآليات حماية الدستور بما في ذلك الضمانات الكاملة للحقوق والحريات الفردية والجماعية. وواضح أن هذا المسعى في حاجة لترتيب مشاهد مرحلة التحويل والتحوير، وهذه المرحلة لا تعني تغيير سلطة بسلطة أو شخصا بآخر، بل تعني تغيير أدوات الحكم والمناهج المؤدية إلى الشرعية في كنف الطمأنينة والهدوء.