سيكون شهر جوان الداخل شهر ”ترسيم الحدود” السياسية بين السلطة والمعارضة في إطار ”قطيعة” عرفت مسارا وكأنه ممنهج على عدم الاتفاق على ”التوافق”، وإن كان هذا المصطلح يعمل عليه الجانبان، لكن بصيغة تباعد وتناقض، فالسلطة تريد توافقا على الدستور بمنطق ”المشاورات”، والمعارضة تريد توافقا على ”التغيير” بمصطلح ”الانتقال الديمقراطي”. أرسل أحمد أويحيى مدير ديوان الرئيس بوتفليقة دعوات المشاركة في مشاورات تعديل الدستور (150 جهة) للأحزاب والشخصيات الوطنية وغيرهم، بينما أرسلت قيادة ”تنسيقية الحريات والانتقال الديمقراطي” هي الأخرى دعوات لحضور ندوة الانتقال الديمقراطي المرتقب عقدها في 10 جوان. كما أرسل الطرفان لبعضهما البعض دعوات المشاركة في العملية السياسية التي يحضر لها كل طرف، بينما كل واحد منهما استقبل دعوة الآخر بما يشبه ”السخرية”، وقناعة كل جهة أنه يستحيل عليه المشاركة في عملية سياسية يعمل عليها من أصبح في نظره ”خصما” بكل المقاييس. ارتسم هذا التضاد على مشهد سياسي أصبح منذ ما قبل الانتخابات الرئاسية 17 أفريل خاليا من أي نقطة تقاطع يمكن التمسك بحبلها في مسعى البحث عن توافق كمنطلق لتفاهمات سياسية لاحقة تمنع ”الدخول في الحائط”، لكن ما يحدث هو العكس، حينما زادت القناعات السياسية تباعدا بين فصيلين سياسيين، يبدو من حيث نمط تعاطيهما مع الاختلاف الذي بينهما كأنهما في دولتين جارتين تتنازعان الحدود، ولم يعرف عن الجزائر أن شهدت وضعا مماثلا إلا ما تعلق بأزمة أوائل التسعينات، حينما بلغ منطق ”الراديكالية” خط اللارجعة بين السلطة وقيادة الفيس المحظور، حيث استبعد أي توافق لحلحلة أعنف أزمة سياسية شهدتها البلاد، واعتمد حينها حلا إقصائيا، لأن الوضع لم يكن يحتمل إلا صعود ”قوة” واحدة تهيمن على كل دواليب السلطة والدولة، فحدثت القطيعة وعمرت عشريتين كاملتين ومازالت، تماما كما لا يزال البعض يذكر مقولة علي بن حاج الشهيرة ”يخوفوا فينا”. وإن كانت أزمة التسعينات تختلف في القراءة والتشخيص وفي الإيديولوجيا عما يمكن تسميته ”أزمة” راهنة ولدت من رحم ”رابعة بوتفليقة” التي عمقت الهوة بين السلطة والمعارضة، ممثلة في ”تنسيقية الانتقال الديمقراطي” و ”قطب التغيير”، إلا أن مسار القبضة الحديدية وتباعد الأهداف ضمن أجندتين متوازيتين لا تلتقيان، صار يهدد الحياة السياسية بجد وبمؤشرات واضحة وضوح تعليق الأمين العام للأفالان عمار سعداني لما سئل أول أمس إن كان سيشارك في ندوة تنسيقية الانتقال الديمقراطي يوم 10 جوان، فكان رده ”ماذا تمثل هذه التنسيقية ومن يكون المشرفون عليها؟”، إجابة تحمل دلالة نكران فظيع لمساعي أصحاب الموقف الآخر، وسعداني باعتباره أهم ممثلي تيار الموالاة لما ينكر ذلك يعني أن ليس في مقدور الآخرين إلا مجاراته. راديكالية الموالاة (لسان حال السلطة) تقابلها راديكالية معارضة تعتبر المشاركة في مشاورات تعديل الدستور ”بدعة سياسية” على وتر ”لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين”، والواقع أن المعارضة لدغت مرات عديدة، ولعل المرشح السابق للانتخابات الرئاسية علي بن فليس يدرك ذلك جيدا، لذلك جاء موقفه من مشاورات تعديل الدستور أكثر ”استئصالية” عندما تجاوز كل ما يتعلق بالمراجعة الدستورية إلى تحديده ”رباعية” في تشخيص الأزمة، ”تتلخص في مجملها في أنها ليست أزمة دستورية ولكنها أزمة نظام بمؤسسات فاقدة الشرعية، والواجب في نظره هو التغيير، والتغيير عند بن فليس يتجاوز مسألة مراجعة دستورية ظهرت فيها ”نوايا غير معلن عنها وأصحابها تحركهم حساباتهم الخاصة التي يخفونها على الشعب الجزائري” كما قال. وسيجد الطرفان خلال الشهر الداخل نفسيهما بصدد القيام بما يشبه ”حملة انتخابية” يتسابق فيها مرشحان اثنان، لما ينطلق أويحيى في مشاورات تعديل الدستور التي ترفضها المعارضة، وتنطلق هذه الأخيرة في حملة الندوة الوطنية للانتقال الديمقراطي التي تتنكر لها السلطة، ليبقى مجال القطيعة المحتملة قائما بكل حيثياته، قطيعة يسبقها سقف من ”العداء” انتقل من العلاقة بين الجهتين إلى العداء داخل الجهة الواحدة، وسقف العداء مبرر لوجود رهان حقيقي لدى المعارضة لفرض منطقها، عبر عنه في جزء منه بالاختلاف الموجود بين قيادة حركة مجتمع السلم على رأسها عبد الرزاق مقري وبين رئيس الحركة السابق أبو جرة سلطاني الذي يقترب من إعلان موافقته على الجلوس إلى طاولة على طرفها الآخر أويحيى، أكيد لا يستسيغها مقري الذي سارع إلى مراسلة رئيسه السابق لثنيه عن المشاركة في المشاورات، باعتبار أن حضور قيادي محسوب على حمس المشاورات ولو ب ”الرائحة” هزيمة في معركة قبل الأوان.