وزارة العدل تتباهى ب”أنسنة ظروف الحبس” لكن بسياسة التقطير السجون استفادت من إصلاحات معظمها “على الورق فقط” أعادت الفوضى التي شهدها سجن الحراش بالعاصمة، ملف إصلاح المؤسسات العقابية إلى الواجهة، والتي مست إطارها التشريعي لتطبيق السياسة العقابية وتدعيم حقوق المحبوسين وأنسنة ظروف الحبس، وتجسيد ما تسميه السلطات “المبادئ الفضلى” لسياسة إعادة الإدماج الاجتماعي للمحبوسين وتحسين سير المؤسسات العقابية وفقا للمعايير الدولية. تتفرع إصلاحات المؤسسات العقابية من مسار إصلاح العدالة الذي يعود تاريخ بدايته إلى شهر أكتوبر 1999، عن طريق تنصيب اللجنة الوطنية لإصلاح العدالة التي أقرها الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، ومن المفروض أن تشهد المنظومة العقابية “نقلة نوعية” وجملة من الإصلاحات التي تمس الإطار التشريعي لتطبيق السياسة العقابية، لكن السنوات التي خلت أثبتت أن إصلاح السجون مسّ الطابع الإداري أكثر من الطابع الإنساني للمسجونين، والعمل على تحسين سير المؤسسات العقابية وفقا للمعايير الدولية وتدعيم أمنها وترقية مواردها البشرية. ويقول المتابعون لقطاع العدالة وبالخصوص إدارة السجون، إن الاكتظاظ أضحى “علامة مسجلة” للمؤسسات العقابية وهو واقع يمكن التؤكد منه بواسطة زيارة بسيطة لأحد السجون للوقوف على حجم الكوارث، لكن السلطات المعنية تتجاهل هذه الحقائق وتوجه الأنظار وتتشدق بالإصلاحات التي تحققت ضمن ما تصفه ب«الإجراءات الاستعجالية والعمليات المسطرة على المدى المتوسط والطويل”. وتدافع وزارة العدل عن إصلاح المؤسسات العقابية، بتباهيها ب«إعادة تكييف المنظومة التشريعية والتنظيمية مع التحولات الوطنية والدولية، وتحسين ظروف الاحتباس ودعم حقوق المحبوسين، وتعزيز برامج إعادة التربية وإعادة الإدماج لصالح المحبوسين، فضلا عن عصرنة تسيير قطاع السجون من أجل تحسين ظروف الحبس وتحسين أوضاع المحبوسين خاصة”. وذكرت مصادر مطلعة ل«الخبر”، بأن “القضاء على الاكتظاظ داخل المؤسسات العقابية لا يسير وفق الأهداف التي أوصت بها الإصلاحات، ومن إجمالي 81 مؤسسة عقابية التي شرع في إنجازها لتخفيف الضغط على السجون، انطلقت الأشغال في بناء 13 مؤسسة عقابية فقط بنسبة 70 بالمائة”. وتشير أرقام رسمية لوزارة العدل تندرج في إطار “التصدي لحالات الاكتظاظ”، إلى أن “البرنامج الجاري يتضمن الشروع في إنجاز 81 مؤسسة عقابية منها 05 مراكز للأحداث ضمن برنامج خاص، وفقا للمعايير الدولية الحديثة منها مؤسسات عقابية بطاقة 19 ألف مكان ضمن برنامج استعجالي، وإدراج واستعمال التقنيات الحديثة حول الإعلام والاتصال، من خلال إنشاء شبكة وطنية للمعلوماتية تربط كافة المؤسسات العقابية بالمجالس القضائية والوزارة”. واعتنت وزارة العدل بالجوانب التقنية لإصلاح السجون على حساب “الجوانب الإنسانية”، من خلال عملها على “وضع تطبيق لتسيير الجمهور العقابي آليا، يربط المؤسسات العقابية بالوزارة، وإنجاز شبكة محلية على مستوى المؤسسات العقابية لربط مختلف المصالح فيما بينها، مرفقة بشبكة أخرى لكن وطنية داخلية على مستوى المؤسسات العقابية لربط جميع المؤسسات العقابية والمدرسة الوطنية لإدارة السجون وملحقتيها بالمديرية العامة لإدارة السجون وإعادة الإدماج. لكن هذه “العناوين الفضفاضة” التي تتباهى بها وزارة العدل، يسقطها متابعون في الماء لأنّها إصلاحات لم تحقق أهدافها رغم مرور 15 سنة على إعلانها (1999) و9 سنوات على صدور القانون الجديد للمؤسسات العقابية (2005)، فوضعية الاكتظاظ باعتباره أكبر مشكل في قطاع السجون، التي تعاني منها المؤسسات العقابية البالغ عددها 127، موزعة عبر مختلف ولايات الوطن، دفعت اللجنة الوطنية الاستشارية لترقية وحماية حقوق الإنسان منذ سنوات 5 سنوات تقريبا، إلى اقتراح إعادة النظر في كيفية حساب مدة السجن وتعويض السنة المدنية المتكونة من 12 شهرا بالسنة القضائية المتكونة من تسعة أشهر فقط، إضافة إلى إمكانية تخفيضها إلى ثمانية أشهر بالنسبة للمحبوسين الذين يثبتون حسن سيرتهم خلال فترة السجن. وعرفت السجون حوادث كثيرة من اشتباكات وفوضى نتيجة الاكتظاظ، وأبرزها تشاجر سجينين بالمؤسسة العقابية بباب الوادي “سركاجي” بالعاصمة، أدى إلى تعرض أحدهم لضربة خطيرة على مستوى رأسه بواسطة قضيب حديدي. كما شهد سجن الحراش منذ سنتين “تمردا لمساجين” دخلوا في معارك بالأسلحة البيضاء، نتيجة إعلانهم العصيان، ما نتج عنه وقوع جرحى وسط المساجين وأعوان الرقابة، فيما آخر حادثة عرفها نفس السجن، عندما أقدم مجموعة من المساجين إلى الصعود فوق أسطح غرفهم وإحداث فوضى عارمة، بواسطة طاولات لعبة “البابي فوت”. “القضاء على الاكتظاظ غير ممكن بغياب الإرادة السياسية” رئيس الهيئة المدنية لإدماج ذوي السوابق العدلية والوقاية من العود، عمار حمديني ل”الخبر” قال رئيس الهيئة المدنية لإدماج ذوي السوابق العدلية والوقاية من العود، المحامي عمار حمديني، إن “الإصلاحات المعلنة لصالح المؤسسات العقابية اعتنت فقط بالناحية الإدارية والتربوية وتكوين السجناء، وإن كانت هذه القضايا لم تخضع إلى دراسة معمقة، تخسر فيها الجزائر كثيرا ولا تعود بالفائدة على المساجين”. وأفاد المحامي عمار حمديني في اتصال مع “الخبر”: “إصلاح السجون لا يعني الاكتظاظ فقط، وإن كان مشكلا معقدا، لكن تدريس وتعليم السجناء ملف حساس هو الآخر، فالدراسة في المؤسسات العقابية تتم بسطحية وعفوية، والسجين يحصّل المعرفة فقط من أجل الاستفادة من العفو المقدر ب26 شهرا، دون العودة عليه بالفائدة نفسيا ولا تربويا ولا أخلاقيا”. وتابع المتحدث: “هذه الوضعية لا نحبذها في الهيئة المدنية لإدماج ذوي السوابق العدلية والوقاية من العود، لأنها لا تخدم السجناء ولا البلاد، لأن النتائج التي يتحصل عليها السجناء فيها ضباضية ولا يوجد مستوى عال، وأسبابها الاستفادة فقط من العفو”. وأوضح حمديني أن “الشهادة التي يحوزها السجين ليست لها مكانة في المجتمع، ورغم أن الدولة تخسر كثيرا، إلا أن الهدف من ذلك هو التخلص من المساجين بأكثر قدر ممكن للتقليص من الاكتظاظ، لكن في غياب متابعة في الميدان، وللأسف لا توجد إرادة سياسية حقيقية للخوض في هذا الملف، على الأقل لتوظيف المساجين الحاملين للشهادات، وبالتالي دافع رئيسي لعودة المجرمين إلى السجن”. وأشار رئيس الهيئة المدنية لإدماج ذوي السوابق العدلية والوقاية من العود إلى أن “الاكتظاظ تحاول السلطات القضاء عليه بإنجاز مؤسسات عقابية بمواصفات دولية، لكن لايزال التحكم في ملف الاكتظاظ ضعيفا جدا، واللجوء إلى تحويل السجناء إلى مؤسسات عقابية أخرى ليس حلا”، مضيفا أن “الآلاف يدخلون يوميا إلى السجن بسبب اللّجوء إلى الحبس المؤقت، لأن الحبس أصبح هو القاعدة والاستثناء هو الإفراج”. ولفت المحامي عمار حمديني انتباه السلطات إلى قضية تحريك السجناء، قائلا: “شرع مؤخرا في تحويل سجناء من مختلف السجون على مؤسسات عقابية أخرى ممن تم محاكمتهم أو لهم أحكام طويلة المدى، وإن كان الإجراء قانونيا، والقانون الجديد للسجون الصادر سنة 2005، ينص على مراعاة عائلات وأقارب السجناء، لكن هذا الإجراء لم يطبّق، وتصلنا يوميا مئات الشكاوى بخصوص هذه المسألة. وللأسف هيئتنا ليس بيدها شيء تفعله سوى الضغط على السلطات”. “إصلاحات قطاع السجون ليست فعّالة والحل في النظام الأمريكي” منسّق شبكة المحامين المدافعين عن حقوق الإنسان ل”الخبر” وصف الناشط الحقوقي ومنسق شبكة المحامين المدافعين عن حقوق الإنسان، أمين سيدهم، الإصلاحات التي مست قطاع السجون ب«غير الفاعلة والفعّالة”، وقال إن “الاكتظاظ الذي تشهده مختلف المؤسسات العقابية يعتبر إشكالا رهيبا”. وقال أمين سيدهم في تصريح ل«الخبر”، إن “إشكال الاكتظاظ يعود إلى اعتماد الجزائر على النظام الفرنسي في تسيير السجون، رغم أن النظام الأمريكي أثبت جدارته، لأنه نظام يمنع الاكتظاظ، من خلال الاعتماد على آلية الإفراج تحت الكفالة ووضع الأشخاص تحت الرقابة القضائية بشكل مختلف عمّا هو مطبّق في الجزائر”. وأوضح المتحدث أن “السلطات المعنية تحارب الاكتظاظ وتساهم في نموه بطريقة غير مباشرة، بحكم غياب إستراتيجية واضحة وانعدام متابعة ميدانية لإعادة إدماج المسجونين، إضافة إلى اللجوء إلى الحبس الاحتياطي الذي تحول إلى قاعدة و80 بالمائة ممن في السجون تطبق عليهم هذه الآلية”. وتابع المحامي سيدهم: “منذ سنوات لم تثبت الإصلاحات المطبقة في قطاع السجون جدارتها بحكم أنها ليست فاعلة ولا فعّالة من أجل التغيير، سوى الجانب الإداري الذي طرأت عليه بعض التحسينات، لكن عملية إعادة إدماج السجناء ماتزال منقوصة، فقبل إصلاح المؤسسات ينبغي إصلاح الذهنيات سواء في الهيئات القضائية أو المؤسسات العقابية”. وطلب منسّق شبكة المحامين المدافعين عن حقوق الإنسان من السلطات “وضع هيكلة لإعادة السجناء لتجنب عودتهم إلى السجون للقضاء على ظاهرة الاكتظاظ، عن طريق جعلهم يعملون حسب تكوينهم المهني، وتفادي اللجوء إلى سوابقهم العدلية، بحكم أنه لا فائدة منها مادام السجناء خضعوا إلى تكوين ليعاد إدماجهم في المجتمع”. “الاكتظاظ في السجون سببه اللجوء المفرط للحبس الاحتياطي” رئيس اللجنة الاستشارية لترقية حقوق الإنسان ل”الخبر” اعترف رئيس اللجنة الوطنية الاستشارية لترقية وحماية حقوق الإنسان فاروق قسنطيني في اتصال مع “الخبر”، بظاهرة الاكتظاظ في المؤسسات العقابية، وقال: “رغم أن بعض المؤسسات العقابية تحسنت فيها ظروف الحبس بعد استلام سجون جديدة، وأخرى في طور الإنجاز تساوي مساحة الغرفة الواحدة 9 أمتار مربعة، إلا أن الاكتظاظ مايزال رهيبا وسببه الوحيد المبالغة في اللجوء إلى الحبس الاحتياطي (المؤقت)”. وذكر قسنطيني بأن “الآلاف موجودون في السجون ضمن الحبس الاحتياطي، وهذه الوضعيات تتسبب في نشوب شجارات يومية بين المساجين، وهي حقيقة لا يجب القفز عليها، رغم أن المؤسسات العقابية الجديدة المنتظرة يمكن لها أن تساهم في حل هذا المشكل”. وتطرق فاروق قسنطيني في تقريره السنوي الأخير عن وضعية حقوق الإنسان، إلى قضية الحبس الاحتياطي، مشيرا إلى أن “الحبس الاحتياطي مسألة تتميز بطابع سالب للحرية وآثارها ما وراء القضائية على حياة المتقاضين وأحيانا على حياة أقاربهم، ولايزال هذا الإجراء جامدا يقاوم أي تعديل، ويجعل طوباويا أي زعم بوجود عدالة موثوقة، رغم أنه يفترض أن يكون إجراء استثنائيا يلجأ إليه في إطار حماية المتهم ذاته، وبهدف صون إمكانية إجراء تحقيق ناجح من خلال حماية المعلومات التي يمكن أن تضيع”. وتساءل صاحب التقرير: “كيف يمكننا الحديث عن عدالة في بلاد يمكن لمعتقل فيها أن يزج به خلف القضبان لسنوات، بل وتدركه المنية في الاعتقال دون أن يحظى بحقه في محاكمة عادلة؟”. وأضاف: “أينبغي التذكير أن الحبس الاحتياطي غير مبرر إلا في الحالات القصوى، أي عندما يتعلق الأمر بجرائم وجنح خطيرة ولديها انعكاسات اجتماعية وخيمة مثل حالات التعنت في تكرار الجرم”. وقال رئيس اللجنة الوطنية الاستشارية لترقية وحماية حقوق: “للأسف، تعطي دراسة الملفات والمتابعة الدقيقة لهذه المسألة بالجزائر، الانطباع بأن القضاة يلجأون بشكل آلي لحبس المتهمين في انتظار محاكمتهم أو توفر أدلة تدينهم، مع أن اللجوء الدائم لهذا الإجراء لا يحقق العدالة لأولئك الذين يطالبون بها”. ويستند قسنطيني أيضا عند ربطه الاكتظاظ في السجون باللجوء المفرط إلى الحبس الاحتياطي وفق المقاربة التالية: “الحبس الاحتياطي، يؤدي إلى مظالم وخلق نزاع بين المواطن والدولة، التي يتفرض أنّها هي من يحميه في جمع اللحظات، لاسيما أن الحبس الاحتياطي مثلما يطبق في الجزائر، يمثل نفيا وحتى تنصلا من كامل تعهدات الجزائر على الصعيد الدولي في مجال احترام حقوق الإنسان”.