لم تكن الهيئة العليا للانتخابات قد أعلنت عن النتائج بعد في الثامنة من مساء الأحد، لكن أمواجا بشرية كانت قد تجمعت أمام مقر حملة المرشح الباجي قايد السبسي في منطقة البحيرة الراقية، حيث السفارات والمطاعم الفخمة، الاحتفال بالفوز هذه المرة بدأ مبكرا، بخلاف الانتخابات البرلمانية والدور الأول في أكتوبر ونوفمبر الماضيين، لم يعط أحد إشارة انطلاق الاحتفالية، لكن تزايد أعداد المناصرين للسبسي أمام المقر، دفع الفرقة الفنية التي كانت قد جهزت أغراضها، للبدء في العزف، كأن الشك لم يكن يساور السبسي وأنصاره للحظة في الفوز على المنافس العتيد والعنيد المنصف المرزوقي، فرقة كاملة العدد والعدة أعدت لها منصة وأضواء صاخبة أمام المقر، المغطى من جانب بلافتة عملاقة كتب عليها “الشاشية، السفسافي، الحايك، اللبلابي، الهرقمة، الحومة”، وغيرها من المسميات المتصلة باللباس والأكل التقليدي في تونس، ومن جانب آخر لافتة كبيرة كتبت عليها كلمة “فبحيث” التي اشتهر بها والتي لا يتحرج السبسي في أن كانت إحدى المسوقات الكبيرة لحملته الانتخابية. كل شيء هنا كان يدل على أنها ستكون ليلة صاخبة، تقطع مع صخب شهرين من الإرهاق الانتخابي المتواصل. وكل الأغاني الممكنة غنتها الفرقة، الشعبي والعيساوة، والأغاني الوطنية التونسية، وبعض أغاني اليسار، أغاني الراي الجزائري كانت حاضرة أيضا، أكثر ما تمايلت له الأمواج البشرية المتزاحمة عند باب العجوز السبسي، أغنية تعد من إحدى أشهر أغاني الحضرة، عن أبي الحسن الشاذلي، هو أحد شيوخ الصوفية ومؤسس الطريقة الشاذلية، تقول “يا الشاذلي بلحسن، يا بابا عليا، وأنا حملي كادني (وتعني أتعبني)”، ولأن الحمل كان ثقيلا على المرشح العجوز، الباجي قايد السبسي، فقد انتظره المناصرون كثيرا، لكنه كان متعبا، لم يطل على مناصريه من شرفة المقر الكبير كما يفعل القادة السياسيون عادة، لكنه أطل عليهم لاحقا على شاشة التلفزيون لتهنئة التونسيين بانتصار الديمقراطية، وأيضا لتهنئة منافسه الرئيس محمد المرزوقي. لم يكن مقر حملة السبسي، المحشو في داخله بالمنظمين الذين يرتدون أقمصة حمراء عليها صورة السبسي، محاصرا بمناصريه فقط، جيش من الشرطة كان يحيط بتلك الأمواج البشرية التي كانت تتراقص، رافعة أعلام تونس ونداء تونس وصور السبسي، وتطلق الألعاب النارية، لافتا أن الحاضرين هنا، وجوههم وملابسهم وسياراتهم أكثر أريحية، أغلبهم من الموظفين والطبقة المرتاحة ماديا، بعض من السخرية والشماتة من المرشح المنافس المرزوقي وأنصاره، كانت على محيا وأفواه السبساويين، لكن القيادية في نداء تونس عايدة القليبي التي نزلت لمقابلتنا، طلبت “التزام الروح الرياضية تفرض عليا احترام المنافس الخاسر، وجبر خاطره”. عناد حتى اللحظة الأخيرة في أريانة في أريانة، لا شيء يدل أن خاطر المنصف المرزوقي وخواطر أنصاره مكسورة وتستدعي الجبر، أو الاعتراف بالهزيمة في الانتخابات. أمام مقر حملته، كان المشهد احتفاليا أيضا، فالطبيب الذي نافس العجوز، والمرشح العنيد الذي عاند والده بورقيبة فعاش منفيا إلى المغرب، وعاند هو بن علي فعاش لفترة منفاه في فرنسا، يعاند إلى اللحظة الأخيرة، في المقر الذي أسدل عليه علم ضخم لتونس، ولافتة كبيرة تتضمن صورة ضخمة للمرزوقي وشعار حملته الانتخابية “ننتصر أو ننتصر”، هنا وبخلاف المنصة المعدة والفرقة الفنية والأضواء التي عند السبسي، تكفل المنظمون الذين كانوا يرتدون بزات بيضاء عليها صورة المرزوقي وشعار حملته الانتخابية “ننتصر”، بالأوركسترا وبهدهدة الجماهير البروليتارية التي تجمعت لتحية مرشحها، بين شعر حماسي وشعارات ثورية، كانت الجماهير أطلقت العنان لكل أنواع الرقص والطبوع الغنائية، بعض أغاني الشاب خالد كانت في عفوية المحتفلين، لكن الجميع كان يحفظ “ما أحلا القعدة على المية (قرب الماء) ما أحلى الربيع، ما أحلى الثورة التونسية تضم الجميع”. بعد ساعتين من الاحتفالات، المرزوقي أطل على مناصريه مرفوقا بزوجته الفرنسية، حياهم بيديه ووعدهم بالنصر لتونس، كما لو أن زعيم حزب الله، نصر الله يخطب، وعد المرزوقي أنصاره بالنصر، بالنسبة إليه، ما تحقق حتى الآن من “سوسبانس” انتخابي في حد ذاته نصر تاريخي لتونس، تحلم كثير من الشعوب العربية أن تحققه، وقال المرزوقي الذي بدا هادئا كما لو أنه لم يتأثر بالنتائج المعلنة التي تدفع بمنافسه السبسي إلى قصر قرطاج، لأنصاره: “انتهى عهد الرئيس المنتخب بنسبة 99,99 بالمائة، وأن تنتهي تلك الممارسات المقيتة في الانتخابات، فهذا أكبر انتصار لثورة تونس”. لم تكن الاحتفالات في البحيرة وأريانة فقط، في شارع الحبيب بورقيبة كانت الجموع المحتفلة قد تجمعت أيضا عند “المنقالة” في أعلى الشارع، هناك من كان يحتفل بفوز السبسي، لكن البعض كان يحتفل بفوز تونس، وبنهاية “الكوشمار” الانتخابي مثلما سماه البعض”، قالت لنا روضة، وهي مصورة صحفية مستقلة: “أرقتنا هذه المرحلة الماضية، لم نعد نستطيع الاستمرار في هذا الوضع المتشنج سياسيا”، لكن التشنج كان قد تحول ليلا إلى مواجهات دامية في منطقة الحامة بولاية قابس بين أنصار المرشحين بعد تسرع بعض القنوات التلفزيونية في إعلان النتائج، وتوالي أخبار هذه المواجهات، ما دفع بقوات من الشرطة إلى التحفز في أكثر من جانب في تونس. عند عودتنا إلى شارع الحبيب بورقيبة، وجدنا الشارع مقفلا في وجه حركة السير، مخافة أية انزلاقات قد تحدث. ليست الشرطة وحدها من كانت تتخوف من انزلاقات بعد إعلان النتائج، لكن سائق الطاكسي الذي تكفل بنقلنا من مقر حملة السبسي إلى وسط العاصمة تونس، واسمه الميلي، يقول إن عائلته من مدينة ميلة في الجزائر، حيث سافر جده إلى تونس قبل 150 سنة، كان يلفت سمعنا إلى أخبار في إذاعة محلية، تتحدث عن اقتحام غاضبين من نتائج الانتخابات لمقر للشرطة، لم يخف الميلي حذره من أن تخطئ الانتخابات وضع المفتاح في باب المستقبل، وتضعه في باب الماضي.