لم يتنفس التونسيون الصعداء بعد، مازال في أفق الانتخابات الرئاسية دور ثاني سيجري في 28 ديسمبر المقبل لحسم الصراع بين المرشحين البارزين، الرئيس محمد المنصف المرزوقي، ورئيس الحكومة الأسبق باجي قايد السبسي، وكثير من الماء يعبر تحت الجسر الانتخابي في انتظار المصب. خاليا ظل شارع الحبيب بورڤيبة الليلة قبل الماضية، بعد انتهاء التصويت وفرز الجزء الأكبر من الأصوات. وحدهم الصحفيون كانوا يتنقلون من مكان إلى مكان لملاحقة المرشحين وندواتهم الصحفية، ومواكب سيارات العرس والفرحة بالفوز بالانتخابات التي كانت معدّة من قبل أنصار المرشحين البارزين، المنصف المرزوقي وباجي قايد السبسي، أطفأت أضواءها وأجلت انطلاقتها شهرا آخر. حتى ساعات متأخرة تحلق أنصار المرزوقي أمام المقر المركزي للحملة الانتخابية في أريانة في العاصمة تونس. نشيد تونس والثورة وصور البوعزيزي وشهداء ثورة يناير 2011، كانت تلون سماء الساحة، وشعار “أوفياء أوفياء.. لا تجمع لا نداء”، كان أكثر ما ردده أنصار المرزوقي مطولا، قبل أن يطل الرئيس المرشح منصف المرزوقي، بعنفوانه الفكري ليشكر مؤيديه، ويجدد استعداده خوض المنازلة الثانية مع السبسي، ودعا الأخير إلى مناظرة تلفزيونية مباشرة. مشاعر الفرحة والحنق كانت تتلاطم في موجة بشرية كانت أمام مقر حملته، فرحة ببقاء المرزوقي في السباق الانتخابي رغم الآلة الدعائية واللوبي المالي الذي وجّه ضده في الحملة الانتخابية، وحنق على نجاح من يصفهم أنصار المرزوقي ب”الثورة المضادة” في العودة إلى المشهد السياسي والترشح لأعلى منصب في الدولة. في ذلك الوقت كان أنصار المرشح المنافس قايد السبسي يحيطون بمقر الحملة في منطقة البحيرة، في حالة زهو نتيجة التقدم المحدود لمرشحهم، مع حضور كبير للصحافة الأجنبية والدولية التي كانت ترقب تطورات النتائج. فارق لافت في طبيعة أنصار المرزوقي ومكان إقامة حملته الانتخابية في منطقة أقرب إلى الشعبية، في مقابل السبسي الذي اختار “البحيرة”، وهي منطقة راقية لإقامة مقر حملته. في حدود التاسعة مساء، كان السبسي في كامل أناقته المعتادة، يطوف في قاعات حملته الانتخابية لتحية العاملين في غرفة العمليات، ووعدهم بالانتصار في الدور الثاني، وحث النساء على مزيد من الجهد. وخارج المقر المركزي للحملة، كان العشرات من مؤيديه يحتفلون بتحقيق تقدم طفيف للسبسي على منافسه المرزوقي، لكن الفرحة لم تكتمل والنتائج المعلنة لا تمنح السبسي فارقا مطمئنا، فالنتائج الجزئية للانتخابات الرئاسية دلت على تباين كبير في فرز أصوات الناخبين بين المناطق. ففي ولاية قبلي في الجنوب، حاز السبسي على ثلاثة آلاف صوت، فيما حاز المرزوقي على 26 ألف صوت، وبلغ الفارق في الأصوات حدا أقصى بين السبسي والمرزوقي في ولاية قبلي، حيث حصل السبسي على ستة آلاف صوت، فيما فاز المرزوقي ب45 ألف صوت. وفي توزر حاز المرزوقي على 20 ألف صوت، فيما حصل السبسي على ثمانية آلاف صوت، في مقابل تفوق السبسي بحصوله على 50 ألف صوت في ولاية المهدية مقابل 23 ألف صوت للمرزوقي، وفي ولاية زغوان ب20 ألف صوت، مقابل 12 ألف صوت للمرزوقي. المراقبون فسروا هذا التباين الكبير في نسب التصويت للمرشحين في الولايات، بكون الكتلة الناخبة في مدن الشمال التي استفادت من البنية التحتية خلال العهد السابق، باعتبارها مدنا سياحية، كانت مدفوعة إلى التصويت لصالح السبسي، بخلاف مدن الجنوب المهمشة التي تضررت اقتصاديا واجتماعيا من النظام السابق، واختارت التصويت للمرشح المرزوقي، الذي وجد خطابه للتغيير صداه في هذه المناطق. ولم تكد النتائج الأولية تثبت العبور إلى الدور الثاني، حتى بدأت الاستعدادات مبكرا لانتخابات 28 ديسمبر المقبل. فبعد أقل من أسبوعين سيكون على المرشحين السبسي والمرزوقي العودة مجددا إلى الشارع لتنشيط حملة انتخابية جديدة، ومحاولة استقطاب الناخبين، لكن الاستقطاب الانتخابي هذه المرة سيوجه أكثر إلى الكتل الناخبة للمرشحين المنهزمين في الرئاسيات، والقوى السياسية المختلفة للفوز بأصواتها، المرشح كمال مرجان، آخر وزير للخارجية في عهد الرئيس بن علي أعلن مبكرا دعم ناخبيه للمرشح السبسي. لكن أكثر القوى السياسية التي ستتوجه إليها الأنظار رأسا هي الجبهة الشعبية التي حاز مرشحها على ما يقارب 10 في المائة من أصوات الناخبين، المرشح حمة الهمامي قال في مؤتمر صحفي عقده الليلة الماضي إن الهيئات المركزية للجبهة ستجتمع لاحقا لاتخاذ قرار بشأن الموقف من مسألة دعم أي من المرشحين. وفي نظر المحلل شاكر بسباس، فإن الجبهة الشعبية توجد الآن في مأزق سياسي وأخلاقي، خاصة بشأن إمكانية دعمها للمرشح السبسي، على اعتبار أن “الضحية لا يمكن أن يدعم جلاده السابق، السبسي محسوب على العهد السابق، والهمامي ظل حتى يوم هروب بن علي في السجن”، ومع ذلك تجزم بعض التحاليل بإمكانية أن يدعم الهمامي السبسي، من باب تحسين شروط التفاوض حول حقائب الحكومة المقبلة. وكما الجبهة الشعبية، تتوجه الأنظار إلى حركة النهضة التي قال أمينها العام علي العريّض، إن مؤسسات الحركة ستجتمع لاحقا لاتخاذ موقف بشأن انتخابات الدور الثاني، وتحفظت الحركة عن الإفصاح عن أي موقف، لكنها أعطت دفتر شروط سياسية تتعلق بحماية الحرية ومواصلة الديمقراطية وضمان استقرار تونس. ثلاثة استحقاقات انتخابية متتالية في ظرف شهرين، أمر مكلف بالنسبة للتونسيين، لكن التجربة الديمقراطية الناشئة تستحق كل هذا التعب، ونجاح التونسيين في انجاز استحقاقين انتخابيين ناجحين في تشريعيات أكتوبر ورئاسيات نوفمبر، يفرض عليهم العمل على إنجاح الاستحقاق الثالث في ديسمبر المقبل، لتتويج المسار الانتقالي برئيس جديد، تدخل به تونس السنة الجديدة 2015.