إنها مفارقة حقا. ففي البلدان النامية والعربية تحديدا، يعتقد الكثير من المختصين في علوم الإعلام والاتصال أن ميلاد الديمقراطية سيعمل على تطوير وسائل الإعلام ويقضي على عجزها. وفي الدول التي رسخت فيها الديمقراطية منذ قرون يتزايد الخوف على هذه الديمقراطية من وسائل الإعلام! لقد كان وهن وسائل الإعلام وقصورها في العديد من البلدان العربية يُبرر في الغالب بنقص حرية التعبير وحتى بانعدامها. فصدّقنا أن هذه الوسائل ستتغلب على ضعفها وتتجاوز نقائصها، بل ستفي بحق المواطن في إعلام كامل ومتنوع عندما تتجسد حرية التعبير، التي كانت مشروطة بالقضاء على الاستبداد والطغيان. لكن ها نحن اليوم نشاهد سقوط وسائل الإعلام في الإسفاف والكذب والتضليل والتطبيل أمام انكماش رقعة الديكتاتورية في أكثر من بلد عربي، وتفكك آلياتها في بعض الأقطار العربية. فأصبح البعض يتحسّر على الماضي الذي كان رجال الإعلام يتحايلون فيه على الرقابة للكشف عن بعض الحقائق ونقد الأوضاع. ويتمنون عودة ذاك الزمان الذي كان النقاش في وسائل الإعلام عميقا فيه ومفيدا رغم محدوديته. ما سبق قوله لا يعنى بتاتا أن الديكتاتورية خير خادم للإعلام، بل يكشف أن الفكر الذي يربط الإعلام الجيد بالعامل السياسي وحده فكر اختزالي يمارس إسقاطا إيديولوجيا على ظاهرة الإعلام المعقدة، إذ يجعل علاقتها بالسياسة أحادية وسببية؛ أي أن السياسة تملك العصا السحرية لتطوير الإعلام بمفردها. حقيقة لقد منحت الديمقراطية وسائل الإعلام الجرأة على النقد واختراق بعض “الطابوهات”. لكن وجود الديمقراطية في ظل غياب النّاصية المهنية ودون هيئات دستورية وقانونية منظمة لحرية التعبير وحامية لتعددية الرأي وصائنة للحياة الشخصية، تُحَوّل وسائل الإعلام إلى ساحة لنشر الأخبار المضللة المستقاة من مصادر مجهولة، وللمساس بكرامة الأشخاص دون دليل. لذا لا نتعجب إن اختصرت حرية التعبير في بعض القنوات التلفزيونية في “جلب” شخصين أو أكثر إلى الأستوديو وتسخينهم “ليتخانقوا” ويتعاركوا أمام المشاهدين، بينما تقف السلطة تتفرج على هذه “الدوشة” لا تعبأ بسبب خناقهم. ولا تُسْأل ولا تراقب. وفي الدول التي عمرت فيها الديمقراطية طويلا ورسخت مؤسساتها الدستورية وتجذرت منظوماتها القانونية، غدت وسائل الإعلام قوة تهدد الديمقراطية. فجان ماري كوتيري، الباحث في مركز الأبحاث حول الاتصال والإعلام في السوربون، يعتقد أن البشرية احتفت باختراع التلفزيون، واعتقدت أنه سيخدم الديمقراطية ويعمل على تحقيق التقارب بين الرجل السياسي والمواطن العادي. لكن المسلك الذي سلكه تطور التلفزيون خيب آمالها لأنه أضعف الديمقراطية، وجعل الممارسة السياسية مجرد جمل خاطفة ومقتضبة تجنح نحو التبسيط كأي شعار إشهاري، وغيَّر قواعد العمل السياسي، فأصبحت قيمة السياسي تقاس بحضوره في الشاشة الصغيرة، عملا بمبدأ “إن لم تُر فأنت غير موجود”. وهذا ما حدا بالسياسي إلى التزلف لرجال الإعلام حتى يظهر في برامج الترفيه والتسلية، ليبدو كشخص عادي مثل بقية البشر! ليس هذا فحسب، لقد همش التلفزيون المؤسسات الدستورية المنتخبة، فالبرلمان الذي يمثل إرادة الناخبين لم يعد الهيئة الوحيدة التي تقيّم أداء السلطة التنفيذية، بل شاركته في ذلك كاميرات التلفزيون بشكل أسرع وأكثر قوة. وبعتقد الباحث ذاته أن “الزمن السياسي” يتطلب وقتا حتى تتجلى نتائجه، بينما يشترط “الزمن التلفزيوني” السرعة والفورية والآنية. لذا لا يكون حكم التلفزيون في عجلته على العمل السياسي صائبا ودقيقا. قد يدعو التلفزيون الرجل السياسي إلى الأستوديو ويستضيفه في برنامج ما، ويستعجله في الإجابة على أسئلة سريعة ذات علاقة بأحداث بعضها لازال في حالة غليان. فماذا عسى هذا السياسي أن يفعله في ظل غياب أدنى شروط التفكير المتبصر والناضج، والتي ندد عالم الاجتماع الفرنسي بيار بورديو بغيابها؟ سيرد على أسئلة الصحافي بالطبع بسرعة، ويقدم إجابات جاهزة مقولبة ضمن التفكير السائد أو العام، ويجتر بالتالي الخطاب الأجوف الخالي من أي معنى. وهذا لا يدل أبدا أن الرجل السياسي مسكين يجب أن يرثى لحاله، لأنه لا يملك سوى أن يكون ضحية التلفزيون، بل بالعكس إنه يدرك ما هو التلفزيون وكيف تطور وماذا يريد من استضافته في الأستوديو. لذا يحاول أن يستثمر هذه الاستضافة ليزيد في رصيد شعبيته. فيندمج في الاستعراض والفرجة التلفزيونية طمعا في أن يصبح نجما، مثله مثل مشاهير الغناء والموسيقى والتمثيل والإخراج والرياضة والطبخ والموضة والأزياء. ألم يقل المخرج السينمائي جون جاك لنبكس إن التلفزيون هو المكان الذي يأتيه مشاهير القوم ليظهروا أمام الملأ أنهم عاديون، ويأتيه الأشخاص العاديون من أجل أن يصبحوا مشاهير”. www.nlayadi.com