شباب جزائريون هاجروا إلى أوروبا وأمريكا بطرق شرعية وغير شرعية، من أجل الدراسة أو العمل، أين قضوا هناك سنوات طويلة خاضعين لقانون غربي صارم قائم على الحقوق والواجبات وثقافة أساسها الانضباط والاحترام، ليصطدموا بعد عودتهم إلى أرض الوطن بحياة تحكمها الفوضى، التي لم يقدروا على التأقلم معها واستيعابها مسببة لهم إحباطا نفسيا واضطرابا عقليا وضعهم في خانة المجانين. حالات كثيرة ومتشابهة رصدتها “الخبر”، لجزائريين خاضوا تجربة الهجرة إلى الغرب قبل أن يتحولوا إلى مجانين يهيمون في الشوارع بثياب ممزقة، وفي أحسن الأحوال مضطربين عقليا يعيشون بمهدئات الأعصاب ولا يقدرون على الاستغناء عنها، لينتهي بهم الأمر إما في مستشفى المجانين وإما متشردين أو بالموت البطيء. يروي الشاب أرزقي قصة جاره كريم في حي المرادية بالعاصمة، والذي درس في أمريكا لمدة 10 سنوات كاملة، ثم عاد إلى الجزائر من أجل العمل هنا ليصاب بعد فترة بمرض عقلي يتناول للحد من مضاعفاته الأدوية المهلوسة، مضيفا: “لقد كان شخصا شريفا، يعمل أستاذا بباب الزوار، غير أنه لم يعتد على العمل في مثل هذه البيئة وانتهى به الأمر مجنونا”. ويصف أرزقي حالة كريم الذي توفي منذ 3 سنوات وعمره 35 سنة لأنه رفض أخذ الدواء الذي تحوّل إلى مخدّر لا يمكن لجسمه الاستغناء عنه “لم يكن يتحدث إطلاقا ولا يقوم بأي شيء طول اليوم، تم إدخاله إلى مستشفى الأمراض العقلية بدريد حسين قبل أن يموت”. ويضيف معلقا: “لقد خسر حياته، لم يتزوج ولم يؤسس أسرة ثم مات في صمت”. ويؤكد أرزقي عن ابن حيه كريم: “كل إخوته وأخواته هربوا من الجزائر إلى كندا، أين يقيمون الآن”. أذنبوا بحق أنفسهم لما عادوا بالقرب من المكتبة الوطنية بحي الحامة، يجتمع العديد من الشباب الذين يبدو مظهرهم مرعبا ولكنهم غير مؤذين، لكل واحد منهم قصة ضياع بدأت عند عودته إلى الجزائر بإرادته أو رغما عنه لأنه كان يقيم في أوروبا بطريقة غير شرعية. أول ما لفت انتباهنا لدى الاقتراب من بعضهم هو إتقانهم لأكثر من لغة أجنبية، قبل أن نستمع إلى قصصهم من جيرانهم ومن عرفوهم عن قرب. يقول الشاب “أ.ك” الذي التقينا به بالقرب من المكتبة الوطنية، إنه يعرف معظم هؤلاء الأشخاص الذين أصيبوا بالجنون، مشيرا: “هذا كان بأوروبا وعندما أعاده والده بالقوة إلى الجزائر أصيب بالجنون، وهذا كان مغتربا ورجع وأصبح يأخذ مهدئات أعصاب ويعمل صحفيا في جريدة معروفة ناطقة بالفرنسية، وبعد اكتشاف أمره تم طرده”. ويضيف: “هذا الرجل عمره 67 سنة من عين النعجة، درس في ألمانيا وعندما عاد إلى الجزائر فقد عقله بصفة كلية”. ويعلق “أ.ك” عن حالة هؤلاء الذين معظمهم من الشباب: “إنهم مساكين تعوّدوا على نمط الحياة والعمل في الغرب، فلم يستطيعوا العيش في هذه الفوضى، فحدث لهم خلل في التفكير”. باحثون عن الهروب مجددا في الوقت الذي فقد فيه العديد من المغتربين العائدين إلى البلاد عقولهم، يحاول آخرون جاهدين العودة من حيث أتوا قبل أن تصيبهم نفس العلة، مع اتخاذ تدابير احتياطية تسمح لهم بالتأقلم مع وضع الفوضى كما يسمونه من أجل تفادي احتمال الإصابة باضطراب عقلي، بعدما عاشوا تجربة مماثلة في أوروبا ثم وجدوا أنفسهم في ظروف مشابهة غير أن قوة شخصيتهم جعلتهم يقاومون الأزمات النفسية المترصدة بهم. وفي هذا الصدد يقول كمال من العاصمة ل”الخبر” والذي عمل في انجلترا واليونان لمدة 8 سنوات كغواص قبل أن يعود إلى الجزائر سنة 2011، أن الفرق بين البلدين تماما مثل الفرق بين الجنة والنار. وقال كمال الذي يعمل غواصا ببجاية حاليا، أن المنكر والتجاوزات التي يراها في العمل، بالإضافة إلى سلبية العمال وقبول معاملتهم كعبيد تجعله يشعر بالأسى عن حال البلاد والعباد. ويضيف: “في أوروبا الحريات مكفولة، لا أحد يمكن له أن يعتدي عليك بكلمة واحدة، الخدمات الطبية راقية جدا، لكل مواطن الحق في أن يكون له طبيب خاص يأتيه إلى المنزل، الشرطة في خدمة المواطن بمجرد الاتصال هاتفيا”. ويسترسل نفس المتحدث: “في أوروبا كل الحظوظ متوفرة ومتاحة لك، لتدرس ما تشاء وتصنع مستقبلك كما تشاء، منحة البطالة تقدّم لك بمجرد أن تقدّم الوثيقة بأنك بطال، ناهيك عن مركبات الراحة والرياضة والمكتبات والسينما والهوايات والمسارح”. ويلخّص كمال تجربته بالقول: “كل شيء هنا يدفع إلى الجنون، أنا لا سبيل لي إلا الرحيل مجددا”. ويروي كمال قصة صديق له من القليعة، التقى به في اليونان: “ذهب حراڤا إلى اليونان ثم إلى إيطاليا وبعدها فرنسا، قبل أن يتم إعادته إلى الجزائر”. وأكد ذات المتحدث أنه لولا الشخصية القوية لصديقه الذي يعمل حاليا بالقليعة، لكانت نهايته الجنون لا محال، مضيفا: “ما زال يبحث عن فرصة من أجل الهروب مجددا من هذه البلاد”. سمكة خرجت من البحر قصة نسيم من بوفاريك، تعبّر عن حجم الإقصاء والقلق الذي يعاني منه المغترب العائد إلى وطنه، حيث يروي نسيم تجربته، بداية من هجرته إلى ألمانيا وعمره 19 سنة، حيث قضى بها 8 سنوات، ليعود سنة 2000 إلى أرض الوطن. ويقول نسيم: “عملت في الكثير من المحلات والمؤسسات في ألمانيا وتربيت تربية صارمة خاصة في العمل، لا سيما أنني كنت في مرحلة الشباب، وهناك تكوّنت شخصيتي”. وعن وضعه الحالي هنا، يروي أنه لم يتمكن من التأقلم مع ما أسماه بالفوضى بالرغم من أن عمره الآن 42 سنة وما زال غير قادر على فعل شيء، موضحا: “كل شيء مختلف هناك، في العمل مثلا كل شيء مقلوب وغارق في الفوضى، في ألمانيا نعمل بالساعات المضبوطة والمحددة بدقة ونحترم كل شروط العمل، هنا كل شيء “معوّج” و«المعريفة” تتحكم في كل شيء”. وهذا الوضع يسبب له الشعور بالقلق على الدوام والإحساس بأنه يوجد في المكان الخاطئ، معلقا: “أشعر وكأنني تماما كسمكة خرجت من الماء، وسأحاول جاهدا الهروب مجددا”. من جهته يؤكد “ل.م” الذي قضى 12 سنة في فرنسا قبل العودة إلى الجزائر أن الأمر مختلف بالنسبة له، لأنه يملك وثائق الإقامة وإمكانية العودة في أي وقت متاحة موضحا: “لولا هذه الإمكانية لأصيب كل عائد إلى البلاد بالجنون لا محالة”.