إنّ شكر المُنعم سبحانه على نعمه المتكاثرة وآلائه المتواترة أصلٌ من أصول الإيمان، ورُكن من أركان العبودية، ولأهمية حمد النّعم افتتح الله سبحانه كتابه بالحمد، وهو في الوقت ذاته مفتتح أعظم سور القرآن، والّتي تسمّى بسورة الحمد: “الحمد لله ربّ العالمين”، وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: “لا أحدٌ أحبُّ إليه الحمد من الله، وذلك أنّه حمد نفسه” رواه الطبراني. مرّت بنا في شهر رمضان المبارك هذا أيّام قيظ شديد، ذقنا فيها العطش والصّدى واللُّهبة، صار معها الماء البارد من أغلى الأمنيات ومن أعلى المشتهيات، وذكّرنا ذلك بنعمة الله الكبيرة: الماء الّذي ينسى كثير من النّاس أنّه نعمة لا تقدّر بقدر لأنّها الحياة “وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ”، وبنعمة كبيرة أيضًا: هدايتنا إلى تبريد الماء وتيسير ذلك علينا، فما أولانا أن نذكر هذه النِّعم الّتي نعايشها ونعيش بها، ولكن الاعتياد والوفرة ينسيانا أنّها نِعم وأيّ نِعم!. وهذه بعض الآثار المنبهة على قدر هذه النِّعمة، عن عبد الله بن الزبير قال: قال الزبير: لمّا نزلت: “ثم لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ” قالوا: يا رسول الله، لأيّ نعيم نسأل عنه، وإنّما هما الأسودان التّمر والماء؟، قال: “إنّ ذلك سيكون” رواه أحمد، وروى ابنُ أبي حاتم عن عكرمة قال: لمّا نزلت هذه الآية: “ثُمّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ”، قالت الصّحابة: يا رسول الله، وأيّ نعيم نحن فيه، وإنّما نأكل في أنصاف بطوننا خبز الشّعير؟، فأوحى الله إلى نبيّه صلّى الله عليه وسلّم: “قل لهم: أليس تحتذون النّعال، وتشربون الماء البارد؟ فهذا من النّعيم”. وقال زيد بن أسلم، عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: “ثُمّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ” يعني: “شبع البطون وبارد الشّراب وظلال المساكن واعتدال الخلق ولذّة النّوم”. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: “هَذَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيدهِ مِنَ النَّعِيمِ، الَّذِي أنْتُمْ فِيهِ مَسْؤولُونَ عَنْهُ يَوْمَ القِيامَةِ، هَذَا الظِّلُّ البارِدُ والرُّطَبُ البارِدُ، عَلَيْهِ الماءُ البارِدُ”. وعنه أيضًا قال: قال: رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: “إنَّ أوّلَ ما يُسْأَلُ عَنْهُ العَبْدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ النَّعِيمِ أنْ يُقَالَ لَهُ: ألَم نُصِحَّ لَك جِسْمَكَ، وَتُروَ مِنَ الماءِ البارِدِ؟”. وعن عليّ: أنّه سُئِل عن قوله “ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ”؟، فقال: “من أكل خبز البُرّ وشرب ماء الفرات مبردًا، وكان له منزل يسكنه، فذاك من النّعيم الّذى يسأل عنه”. وليس المقصود أنّ هذه الآية الكريمة نزلت في الماء البارد بخصوصه، ولكنّه أحد مشمولاتها، وإلاّ فقد ورد عن المفسّرين أقوالاً أخرى في المراد منها، قال سعيد بن جبير: حتّى عن شربة عسل. وقال الحسن البصري: نعيم الغداء والعشاء، وقال أبو قلابة: مِن النّعيم أكل العسل والسّمن بالخبز النّقيّ. وقال مجاهد: عن كلّ لذّة من لذّات الدّنيا. قال ابن كثير: وقول مجاهد هذا أشمل هذه الأقوال. وقال العلامة عبد الرحمن بن ناصر السّعدي: “ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ” الّذي تنعمتُم به في دار الدّنيا، هل قُمتم بشُكره، وأدّيتُم حقّ الله فيه، ولم تستعينوا به، على معاصيه، فينعمَكُم نعيمًا أعلى منه وأفضل. أم اغتررتم به، ولم تقوموا بشكره؟، بل ربّما استعنتم به على معاصي الله فيعاقبكم على ذلك، قال تعالى: “وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ”. إمام وأستاذ الشّريعة بالمدرسة العليا للأساتذة