يقولُ اللهُ تعالى في القرآنِ الكريمِ: {كلُّ نفسٍ ذائِقَةُ الموتِ وإنّما تُوفَّوْنَ أُجورَكُمْ يومَ القيامَةِ فمن زُحزِحَ عن النّارِ وأُدخِلَ الجنّةَ فقد فازَ وما الحياةُ الدُّنيا إلاّ مَتَاعُ الغُرُور}، ويقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: “الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ”. ما أحلى الحياة على التّقوى والإيمانِ وما أمرَّها مع الكفرِ والهلاكِ والخسرانِ. ما أحلى الحياة على التّقوى والاعتزازِ بالإسلامِ وما أمرَّها مع الكفرِ والذُّلِ والهَوَانِ. كَتَبَ اللهُ الموتَ على كُلّ نفسٍ منفوسَةٍ، كَتَبَ اللهُ الموتَ على كُلِ نفسٍ مخلوقةٍ، كَتَبَ اللهُ الموتَ على كُلّ مِنّا، فالقبرُ بابٌ وكلٌ منّا داخِلُهُ، القبرُ بابٌ وقد حُمِلَ إليهِ أسلافُنَا وسيأتي يومٌ نكونُ على الأكتافِ مَحْمُولينَ نُساقُ إلى المقابِرِ بلا إرادةٍ منّا، فهلاّ حضّرتَ نَفسَكَ وهيّأتَهَا لما بعدَ الموتِ. الموتُ يأتي بغتَةً سواء في ساحة الوغى أم على فِراشِ الموتِ صَحيحًا مُعافىً أم كُنْتَ مَطْعونًا بالسيوفِ وغيرِهَا من أسبابِ الموتِ كما يقولُ الشاعِرُ: تَعَدَّدَتِ الأسبابُ والموتُ واحِدُ، وإنّ النّاس في حياتهم الدّنيا خاسرون إلاّ الّذين آمنوا وعملوا الصّالحات وتواصوا بالحقّ وتواصوا بالصّبر. فكُن ذلك الرجل المبارك في حِلّه وترحاله، كالغيث أينما وقع نفع، وليكن لك قلبٌ عامر وعقلٌ يثابر، تقيُّ خفيّ، نقيّ أبيّ، نفعه متعد، وخيره عام، يتجذّر هداه في كلّ أرض أقام فيها، إذا قال أسمع، وإذا وعظ جعل القلوب لربّها تخشع، قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَاَ قَدَّمُواْ وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُّبِينٍ}، وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا أي في حياتهم وَآثَارَهُمْ أي ما تركوه بعد وفاتهم. ونظيره قوله: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ} الانفطار:5، وقوله: {يُنَبَّأُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذِ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} القيامة:13، وقال: {اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} الحشر:18. فالواجب على المؤمن المبادرة بالأعمال الصّالحة قبل أن لا يقدر عليها ويحال بينها وبينه إمّا بمرض أو موت... فآثار المرء الّتي تبقى وتذكر بعد الإنسان من خير أو شرّ يجازى عليها: من أثر حسن؛ كعلمٍ علَّموه، أو كتاب صنَّفوه، أو بناءٍ بنوه من مسجدٍ أو رِباط أو نحو ذلك. أو أثرٍ سيّء كإعانة ظالم، أو صدّ عن سبيل الله أو غير ذلك ممّا يُغضب الله وتبقى آثاره، وقيل: المراد بها في الآية آثار المشَّاءين إلى المساجد. ولقد قال صلّى الله عليه وسلّم كما في الصّحيح: “مَنْ سَنَّ في الإِسْلام سُنةً حَسنةً فَلَهُ أَجْرُهَا، وأَجْرُ منْ عَملَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ ينْقُصَ مِنْ أُجُورهِمْ شَيءٌ، ومَنْ سَنَّ في الإِسْلامِ سُنَّةً سيَّئةً كَانَ عَليه وِزْرها وَوِزرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بعْده مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزارهمْ شَيْءٌ”، رواه مسلم. وقد ذكر الرّسول صلّى الله عليه وسلّم أمورًا سبعةً يجري ثوابها على الإنسان في قبره بعدما يموت، وذلك فيما رواه البزار في مسنده من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: “سبعٌ يجري للعبد أجرهنّ وهو في قبره بعد موته: من عَلّم علمًا، أو أجرى نهرًا، أو حفر بئرًا، أو غرس نخلاً، أو بنى مسجدًا، أو ورّث مصحفًا، أو ترك ولدًا يستغفر له بعد موته”... وروى ابن ماجه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: “إنّ ممّا يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته: عِلمًا علّمه ونشره، وولدًا صالحًا تركه، ومصحفًا ورثه أو مسجدًا بناه، أو بيتًا لابن السّبيل بناه، أو نهرًا أجراه، أو صدقةً أخرجها من ماله في صحّته وحياته تلحقه من بعد موته”... ألا فلنطرق بابَ التّوبَةِ قبلَ أنْ يُفاجِئَنا مَلَكُ الموتِ واللهُ تعالى يقولُ في القرءانِ الكريمِ: {وإذا جاءَ أَجَلُهُم لا يَسْتقدِمُونَ سَاعَةً ولا يَسْتَأخِرُون}، والإمامُ عليٌ رضي الله عنه يقولُ: “اليومَ العَمَلُ ولا حسابَ وغدًا الحسابُ ولا عَمَلَ”، ألاَ فَتَزَيَّنُوا ليومِ العرضِ. فالأيّام تطحن الأعمار طحن القمح في الرحى. ثمّ تذرى الأعمال أدراج الرّياح؛ ولا يبقى إلاّ ما رضيه الله سبحانه، وأحبّه من الأقوال والأفعال. ولنبادر الأيّام بالعمل الصّالح، ولنملأ خزائنها بالفرائض والنّوافل قبل أن تبادرنا هي بموتٍ أو عجز، وقبل أن تجدها فارغة خاوية حينها نقول: {يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي}. كلية الدراسات الإسلامية/ قطر