لا يزال المخرج الجزائري المخضرم مرزاق علواش، متمسكا بطريقته في فضح الأنظمة وتعرية المجتمعات المتخفية وراء تصريحات مسؤوليها، والمتجملة بعمرانها وأبراجها، بينما الفقير يزداد فقرا وتتوسع دائرة العشوائيات، والفجوة بين المواطن والمسؤول، بما ينذر بغضب عارم وبركان ثائر قد ينفجر في أي لحظة. “مدام كوراج”.. هذا العنوان اختاره مرزاق علواش لفيلمه الأخير، الذي يشارك به في المسابقة الرسمية للأفلام الروائية الطويلة بمهرجان القاهرة السينمائي الدولي في دورته ال37، بمجرد سماع العنوان يتخيل لك أن بطل الفيلم “امرأة”، إذ ليس من السهل فهمه إلا بمشاهدته، لتكتشف أن اسم الفيلم من اسم نوع من أنواع الحبوب المخدرة، يطلق عليها وسط المدمنين اسم “مدام كوراج”، فيتوهم من يدمنها أنه بمجرد تناولها يصبح ك”سوبرمان” الرجل الخارق، ويمكنه فعل المعجزات. يبدو أن مرزاق علواش لم يخرج من فيلمه المحفور في ذهن الجزائريين، وكل محب لسينما علواش، وكأنه يصور جزء ثان لفيلم “عمر ڤتلاتو الرجلة”، لتتماشى شخصية “عمر” مع التغيرات التي طرأت على مجتمعنا وأثر التكنولوجيا فينا، “عمر 2015”، ذلك الشاب المدمن السارق الفاقد للوعي أغلب الوقت، المثقل بالهموم والمشاكل. تدور أحداث الفيلم في ولاية مستغانم، وبطل الفيلم “عمر” شاب مراهق ينتمي لأسرة تعيش تحت خط الفقر، بعدما توفي الأب الذي كان يعمل في مجال البترول بمنطقة حاسي مسعود، لتجد الأم نفسها مسؤولة عن ولدين، بنت وولد، يعيشون في بيت قصديري في أحد الأحياء المترامية بمستغانم، فيلجأ “عمر” لتعاطي المخدرات لعلها تنسيه همومه، ويسرق المقتنيات الذهبية وحقائب السيدات، لشراء تلك الحبوب وسد احتياجاته، وذات يوم يسرق عقدا من رقبة فتاة تدعى “سلمى”، طالبة في الثانوية، وفجأة يقرر ملاحقتها فيقع في غرامها ويعيده لها، وهنا تبدأ قصة الغرام التي كبتها “عمر” في نفسه، ولم يفصح عن حبه لسلمى. تعمّد علواش على الربط المباشر بين الخطاب الديني والتخلف الاجتماعي في الجزائر، حيث يرفع الآذان كثيرا في الفيلم، ويعيد مشاهد أم عمر الجالسة ليلا ونهارا أمام جهاز التلفزيون وهي تشاهد البرامج الدينية والنصائح المتعددة التي يرددها الدعاة، ليكشف التناقض والنفاق الذي غمر بعض الأوساط، فتلك الأم هي نفسها التي جعلت ابنتها فتاة ليل وتمارس الدعارة، وتشجعها على ذلك، وذات مرة يسألها “مختار” عن الأموال التي كسبتها والرجال الذين عاشرتهم، وعندما يعرف أنها لم تكسب الكثير من المال، يبرحها ضربا ويشوه وجهها، فتعود إلى البيت ووجهها غارق في الدماء، ينتقم “عمر” لأخته من مختار على طريقته، ويعود إلى البيت حاملا قفة مليئة بشتى أنواع الخضر والفواكه واللحم، لتطلق والدته التي لا تكف عن سبه وشتمه بأقبح الألفاظ، الزغاريد عندنا ترى اللحم. وبالرغم من المعيشة الصعبة التي يعيشها “عمر” إلا أنه لم ينس حبه لسلمى، واشترى هاتفا ذكيا خصيصا لالتقاط صور لها، ليمتّع نظره بجمالها، كان كلما يراها يركب دراجته النارية وهو في قمة السعادة، متجولا بين شوارع مستغانم، واعتاد على الوقوف تحت شرفة منزلها لمراقبتها، فتشتكيه سلمى لأخيها ضابط في الشرطة الذي يأمر دورية الحي بالقبض عليه، ويأخذه إلى مركز الشرطة ويستجوبه هناك، فيجد بحوزته مجموعة من الأقراص المخدرة، من بينها “مدام كوراج” التي اعتاد على تناولها، فيسأله عن علاقته بأخته سلمى، فيلتزم الصمت، لكن الضابط يقرر إخلاء سبيله عندما يعرف بأنه يتيم، هنا يتناول “عمر” “مدام كوراج” وعدد من الأقراص المخدرة ويتجه إلى العمارة التي تسكن بها سلمى، لكنه ينام ويترك علواش النهاية مفتوحة. لم يعتمد الفيلم على الحوار كثيرا، ولغة الجسد كانت طاغية وكفيلة بفهم قصته، حيث اعتمد المخرج على الزوايا القريبة واستخدام الإضاءة الخافتة للدلالة على ضنك المعيشة وقساوة الحياة بين العشش. “مدام كوراج” فيلم جيّد وكان يمكن أن يكون أفضل لولا وقوع المخرج في فخ التكرار وإطالة المشاهد التي جعلته رتيبا نوعا ما، وقد شهد الفيلم حضورا قويا ومميزا لجمهور المهرجان الذين أبدوا إعجابهم بالفيلم وفكرته. “مدام كوراج” في عيون النقاد الناقد رامي المتولي “مدام كوراج” مرآة للمدن العربية بأكملها وإضافة ثرية لمهرجان القاهرة يرى الناقد السينمائي المصري رامي المتولي، بأن فيلم مرزاق علواش “مدام كوراج” مرآة للمدن العربية بأكملها، لا الجزائر ولا الجهة المغاربية فقط، فمن خلال عيون عمر بطل فيلمه يبدو أي شاب عربي في القارة الإفريقية، نفس الهم ونفس الحمل الذي يهرب منه إلى المخدرات، كل منهم ملك يعيش ويحقق ما يريد، وكأن القواعد التي يسير عليها باقي البشر لا تعنيه، يسرق وقت ما يريد قضاء حوائجه، لا يظلله القانون ولا يعاقبه، وأضاف ل”الخبر”، “عمر يحب، يسعى لرؤية حبيبته، أخت عمر تهان، ينتقم لها عمر، جار عمر يبحث عن شقة ويهدد بالثورة، عمر يدعو له بالتوفيق، أم عمر تتوعده وتدعو عليه، ولا تبالي بكون ابنتها مومس أو ابنها سارق، ومتابعة دائمة للبرامج الدينية التلفزيونية، فيهددها عمر بأنه سيكسر التلفزيون على رأسها، ويخلص الناقد بقوله في “مدام كوراج” نجد “عمر يعيش لعمر، في فيلم بدون موسيقى تصويرية وبإيقاع رتيب دون تحديد الزمن وملامح مكان مطموسة، ومشهد العشش بجانب المجمعات السكنية الفاخرة وفوق المتوسطة، هو مشهد في كل العواصم، وكأن علواش يؤكد على الوحدة في الهم، وترك قصة بطله بلا نهاية حاسمة وقد حاولته المصائب، ليبدأ قصة جديدة مع فتاة أخرى تذهب لمدرستها”. يشير رامي المتولي أن الفيلم إضافة ثرية للمسابقة الدولية لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي، ومنافس عربي قوي لأفلام أخرى، وأنه تعرّض لمشاكل دول أخرى، وحياة ناس مختلفين في اللغة والتفكير، وكلها تصبّ في مصلحة مشاهد أفلام المهرجان. الناقد رياض أبو عواد “الفيلم أكثر من رائع لكن الإطالة في بعض المشاهد جعلته رتيبا” أبدى الناقد الفلسطيني رياض أبو عواد، إعجابه وانبهاره ب”مدام كوراج”، غير أنه انتقد الإطالة في بعض المشاهد، وأكد أنه كان يمكن للمخرج أن يختصرها، موضحا ل”الخبر”، “الفيلم أعجبني كثيرا والأداء التمثيلي كان أكثر من رائع، والصورة جيدة، لكن كنت أرى أنه من الأفضل لو اختصر المخرج في بعض المشاهد تفاديا للرتابة والتكرار، لأنه عبّر عنها بشكل كامل في وقت سابق، على غرار مشاهد السرقة ووقوف “عمر” أمام منزل “سلمى” ينتظرها لساعات طويلة، وقد تطرّق علواش إلى قصة جزء من أزمة الإدمان في المناطق الشعبية المسؤولة عنها الدولة، في نقد هادئ للدولة تجاه المناطق العشوائية. الناقدة نسرين لطفي الزيات “علواش يمتلك تقنيات سينمائية عالية جدا وأتمنى عرض الفيلم بمصر” أعربت الناقدة السينمائية المصرية، نسرين الزيات، عن مدى إعجابها بفيلم مرزاق علواش، الذي ترى بأنه يملك تقنيات سينمائية عالية جدا، وتمنت أن يعرض الفيلم بجميع المحافظات المصرية، لأنه لا يمثل –حسبها- الجزائر فقط، وإنما مصر أيضا، وأضافت “سينما علواش تبدو سطحية في التعامل مع المتجمع والثقافة، وقصة الفيلم مبنية على أحداث بمنطقة صغيرة، لكن شريط الصوت نقل لنا جميع التفاصيل الصغيرة في فيلم متكامل، وإن اتجه المخرج أحيانا للارتجال قليلا، لكن ذلك كان في صالح الفيلم، وأرى أن الفيلم مهم جدا وغير متعلق بالمجتمع والثقافة الجزائرية فقط، وإن تم تصويره على أطراف الجزائر، لكن ذلك يحصل في كل بلد فيه هم ويحكي عن مجتمعه بهذه الطريقة، وقد تعودنا على الجرأة في أفلام علواش، ونقل لنا الاختلاف الذي حصل في المجتمع الجزائري والتعايش مع الخطاب الديني منذ العشرية السوداء، ولم يستخدم لغة الحوار الفجة المتكررة في بعض الأفلام التي لا نفهم قصتها إلا إذا تكلم أبطالها، وهذه الطريقة ساذجة، غير أن علواش لديه القدرة على مسك الخيوط الدرامية ومتمكن جدا، وطريقة السرد في الفيلم أفقية وراسية في نفس الوقت لحكاية بسيطة جدا، كما أنه يحاول تبرير سلوك بطل الفيلم “عمر” الذي يعيش في العشوائيات، لكنه جعلني أتعاطف معه في السياق الدرامي الذي وضعه”.