دوت صرخة “الخبر”، أمس، عاليا في سماء العاصمة، ترد على من أراد لهذا الصرح “الاغتيال”، وتجدد العهد في وقفة تاريخية مع شهداء الجريدة والمهنة، بالحفاظ على الأمانة، فأبكى نشيد “أورتيلان الشهداء” الحاضرين، وأخرج أجمل ما فيهم من مشاعر صدق ووفاء، تدل على أن في الجزائر “بقية خير” لا تزال ممسكة بناصية العقل، في زمن انحدرت فيه الجزائر، على كل المستويات، إلى درك “اللامعقول”. جمع كبير هبّ لنصرة “الخبر” أمس، مستجيبا لنداء الضر الذي مسّها، فالتأم الحاضرون جميعا قبالة المحكمة الإدارية ببئر مراد رايس، يهتفون ويصرخون، يخرجون ما في صدورهم من غضب، ملتزمين حدود التحضر والسلمية، للتعبير عن رفضهم لأن تغلق جريدتهم المفضلة.. لأن يسكت هذا الصوت الحر الذي لطالما عبّر في أعمدته عما يختلجهم من مشاعر تجاه الجزائر.. لطالما نقل انشغالاتهم وآهاتهم من ضيق قراهم المعزولة إلى فضاء الجزائر الرحب الفسيح. هذا ما يفسر ربما حضور المواطنين في الوقفة، رغم أن الجريدة لم تشأ أن تكون الدعوة جماهيرية، وتركتها للمتعاطفين فقط، من الأحزاب السياسية ونشطاء المجتمع المدني والصحفيين، طبعا والراغبين من المواطنين في مقاسمة جريدتهم هذه اللحظات. حضور المواطنين الكثيف جاء ليرد، كذلك، كما قال أحمد (سيدي أعمر- تيبازة) على من اعتقد أن “الخبر” هي قضية مساهمين أو رجال أعمال، ويؤكد على أنها قضية وطن بأكمله، لا يمكن أن يكون بخير ما لم تكن صحافته كذلك. الحضور كان سيكون أكبر لو أتيح لكل المتعاطفين المجيء، فهاتف الجريدة لم يتوقف عن الرنين طيلة اليوم، من كل ولايات الوطن، أحدهم من خنشلة قال إنه سيظل وفيا للجريدة ولو بيعت ب100 دينار ! وآخر من سطيف عرض التبرع للجريدة، غير مستوعب ربما أن المعركة تتجاوز المسألة المادية إلى ما هو أكبر من ذلك بكثير، لكنه مع ذلك سجل وقفته وفق ما يراه مناسبا في إنقاذ الجريدة التي قال إنه لن يتخلى عنها أبدا. “الخبر”، أمس، تجاوزت كونها جريدة تتعرض لمضايقات السلطة ووزيرها للإعلام، وتحولت إلى “رمز” لوحدة الجزائريين بمختلف توجهاتهم، هبوا لنصرتها لما أحسوا بأنها في خطر. ذلك ما ظهر في الحضور النوعي للسياسيين، من أقصى اليسار إلى اليمين، من اللائكيين إلى الإسلاميين، كلهم وقفوا بصوت واحد “لا لاغتيال الخبر”، ورسموا الصورة الحقيقية لتجاوز الجزائريين كل ما يفرقهم، لما يتعلق الأمر بقضية محسوم فيها، فتحول الديكور إلى ما يشبه محاكمة للنظام في جانب حرية التعبير، عندما تلقى الآذان لسماع ما كان يصرح به السياسيون للميكروفونات الحاضرة بكثافة، وطنيا ودوليا. لم يسبق منذ زمن طويل أن التحمت لويزة حنون، زعيمة حزب العمال (أقصى اليسار) مع عبد الرزاق مقري، رئيس حركة مجتمع السلم (الإسلاميون) وجيلالي سفيان، رئيس حزب جيل جديد (الوطنيون)، تماما مثلما مضى وقت طويل على اقتراب محسن بلعباس، رئيس التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية (اللائكيون)، مع خليدة تومي، المنشقة عن الحزب منذ زمن، أو مع كريم طابو، السكرتير السابق لجبهة القوى الاشتراكية، خصمهما السياسي السابق. كان كلهم يتحرك وسط الجموع بانسجام تام، يتبادلون التحية كلما اقترب أحدهم من الآخر، متناسين ولو حينا ما كان بينهم من خلافات. كما أعرب قياديون عن حركتي النهضة والإصلاح وجبهة العدالة والتنمية، عن تضامنهم مع “الخبر”، ودعمهم لحرية التعبير والتنديد بممارسات السلطة. في المشهد، كانت تقف أيضا زهرة بيطاط، المجاهدة التي رغم ثقل سمعها واشتعال رأسها شيبا لا تزال تقف في ساحات النضال وتخوض المعارك. قبالة رفيقة “علي لابوانت”، كانت صورة الشهيد الآخر “عمر أورتيلان”، رئيس تحرير “الخبر” المغدور ذات أكتوبر من سنة 1995، تقف شامخة في الرسم الذي يأبى فيه تمثال الشهيد أن ينهار، تحت ضربات وزير الإعلام حميد ڤرين، وكأن صاحب الرسم أراد أن يطمئن الحشود بأن قضيتهم في النهاية ستنتصر، لأن أصحاب الحق لا يهزمون أبدا. في هذه الأثناء، كان نشيد “أورتيلان الشهداء” يدوي في المكان، تردده حناجر الصحفيين والمناضلين والمواطنين، وتستمد من ذكراه القوة في الاستمرار والثبات، بينما لم يكن للطرف الآخر ما يستند عليه ويستقوي به للدفاع عن قضيته، إلا محام مطرود من نقابة المحامين، أوكلت له الوزارة أمر دفاعها، فجلب عليها فضيحة في قاعة المحكمة، وكأن المشهد أراد أن يجسد بتلقائية، الفرق الحقيقي بين الخصمين ويترك الحكم للتاريخ. كان المتعاطفون يرددون بحرقة أن “الخبر” لن تموت، ويهتفون برحيل وزير الاتصال، ويتحدونه بأن جريدتهم باقية رغما عنه، ويرفعون راية “الخبر” عاليا، في حين لم يتردد المارة بسياراتهم في إطلاق الأبواق كلما اقتربوا من التجمع، والإشارة بأيديهم، كدليل على المساندة التي كان يبادلها الواقفون بالمثل. وحتى الشرطة التي طوقت المكان، أراحها انضباط الحاضرين الشديد الذين احترموا السواتر الموضوعة رغم كثافة عددهم. درس “الخبر”، أمس، كان قاسيا على كل المتحاملين والمتخلفين عن الحضور لمساندة معركة حرية التعبير في الجزائر، لأن الجزائريين أثبتوا وعيا منقطع النظير في فهم الأجندات الخفية التي تسكن محركي القضية ضد “الخبر”، ذلك ما عبر عنه أحد السياسيين الذي قال إن إسكات صوت الجريدة يراد له القضاء على دور الصحافة كسلطة “مضادة”، ومسخها كما يريد الوزير ڤرين إلى سلطة دعاية للنظام. هذا ما استوعبته العقول ورددته الحناجر في شعار “الخبر لن تموت”.. لأن في موتها موت آخر ما تبقى من كرامة الصحافة في الجزائر.