الإنسان يصادق الإنسان.. هذه مسألة بديهية. أما غير العادي، أن يصادق الإنسان الأشياء والجمادات. الصداقة الأولى للناس التقليديين الذين يعيشون نمط حياتهم تحت مظلة "لا تشرب قهوة قبل النوم". أما الصداقة الثانية، فهي للناس الذين يشعرون بالوحدة بعد أن تتساقط أوراق الأصدقاء في خريف الأيام، وللذين يمكثون وقتاً طويلاً في المستشفى، حتى يمل الأصحاب من زيارتهم، وللذين يجدون في الكتابة خير صديق يبوحون له دون أن يستغل بوحهم يوماً ما، وللذين أصبحوا مشهورين يهربون إلى عزلتهم في المقهى، وللذين يفضلون التأمل في وجه لوحة لا يتغير، على التأمل في وجه شخص متعدد الوجوه. لذلك قررت منذ زمن أن أصادق الأشياء. وسأعرفكم على صديقتي التي مضى على صداقتنا حوالي عشرة أعوام. لم أكن لأحكي عنها لولا أنني منذ أيام جئت فلم أجدها. لم أعتبر أن في الأمر خيانة، فقد كانت مرغمة على ذلك. منذ عشرة أعوام، اتخذت لي ركناً في مقهى ينأى بمقاعده وطاولاته عن الضوضاء، لا يرتاده إلا الذي يقصده. مقهى يقدم القهوة الأمريكية، أي بمفهوم اليساريين قهوة إمبريالية. ولأنني لست يمينياً أو يسارياً، بل أسير في اتجاه جغرافي مستقل وأفكاري من صنع عقلي، فإنني أتحدث بموضوعية عن انتشار الثقافة الأمريكية لدى العرب، فهذه الثقافة لم تُفرض بالقوة، أتحدث هنا عن أسلوب طعام ولباس وسينما وموسيقى. فهذه الأمور، كما قلت لصديق لي أمريكي تجعلني أحترم هذه الثقافة كونها انتشرت بالإقناع، فلا أحد يجبرك على مشاهدة أفلام هوليود، بل أنت مبهور بتقنياتها.. وهكذا عن بقية المفردات الأمريكية التي يقبل عليها الناس بمحض إرادتهم. في ذاك المقهى، كانت صديقتي "الطاولة" الخشبية تنتظرني كل يوم، تحتمل أوراقي وكتبي وجهاز الكمبيوتر ولا تشكو من صداع رغم طرقات أكواب القهوة فوق رأس خشبها. وفوجئت قبل أيام بأنهم غيروا ديكور المقهى، فاستبدلوا صديقتي الخشبية بأخرى. حتى الآن لم أشعر بالألفة تجاهها، وربما حتى هي لم يخطر ببال خشبها حين كانت شجرة أن تصبح صديقة رجل يحمل كل هذه الأوراق.