طالبت المحامية فاطمة الزهراء بن براهم بضرورة إحضار الأرشيف الجزائري والاهتمام به بتصنيفه وتقديمه للباحثين والمختصين، وقالت في حوار ل"الخبر": "كل الحقائق التي يمكن أن نصل إليها تأتي من الأرشيف.. نحن اليوم نسمع ما يقوم به الطرف الفرنسي فقط، لكن الدولة الجزائرية ماذا فعلت في هذا الجانب؟". واعترفت المحامية المهتمة بأرشيف جرائم الاستعمار الفرنسي، بأنها لا تعرف كيف سيتعامل الجانب الرسمي، مع هذا الأرشيف في الجزائر، وتساءلت "هل سيحضرون الأرشيف في السرية ثم يخفونه، أو يرمونه، أو سيتكلمون عنه. لا أعلم". اعترف مؤخرا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بجريمة موريس أودان، وأعلن عن فتح جزء من الأرشيف المتعلق بالمختفين إبان معركة الجزائر. كيف تجدون هذه الخطوة، وما أهمية الأرشيف بالنسبة إليكم وللجزائر؟ خطوة مهمة للرئيس الفرنسي بالنسبة لقضية المفقودين والأرشيف المتعلق بهم. وهذا مطلب تطرقت إليه طويلا وفي عدة محاضرات، خاصة في منتدى يومية "المجاهد"، ففي معركة الجزائر وحدها هناك ثمانية آلاف مفقود، عدد كبير جدا، وفرنسا لا تعترف به كليا إلا من خلال ما جاء في تصريح محافظ شرطة الجزائر آنذاك "بول تيتجن" الذي استقال من منصبه مباشرة بعد أن تحدث مع الجنرال ماسو عن 3667 مفقود في التقارير التي قدمها له، لكن العدد الحقيقي هو 8 آلاف مفقود، وقد حدثت ضجة كبيرة لما كشفنا عنه، وتحدثنا عن بعض الحقائق المتعلقة بالمفقودين وبوثائق من الأرشيف. لقد تحركت فرنسا، لكن لم يتحرك الجزائريون. وفرنسا لا تتحرك من جهة السياسيين، لكن من جهة رأي المجتمع المدني والمؤرخين خاصة، نحن للأسف لا نملك مؤرخين يكتبون في هذا الموضوع. هذه الحقائق هزّت فرنسا، ولذلك اليوم يتحدثون عن المفقودين خلال حرب التحرير. يجب أن نفرق بين الاختفاء البسيط والاختفاء القسري، لأن هذا النوع من الاختفاء فيه إكراه، لقد أخذهم الجنود الفرنسيين، والتسمية الحقيقية التي يجب أن نعود إليها الآن هي الاختفاء القسري أثناء معركة الجزائر، وهو في حقيقة الأمر مصنّف قانونيا، والقانون الدولي يعتبره جريمة ضد الإنسانية ولا تتقادم، لذلك اليوم فرنسا تعترف بالتدرج، ويعتبر ما قام به الرئيس الفرنسي اعترافا سياسيا، وأعلى اعتراف في السلطة السياسية ولا نقاش فيه، واعترف أن هناك فعلا مفقودين في معركة الجزائر خلال حرب التحرير حتى لا نخلط الأمر بين المفقودين الفرنسيين ومنظمة "أو. آ. آس" سنة 1961. عندما نتحدث عن معركة الجزائر فإننا نقصد المفقودين في سنوات الجنرال جاك ماسو والعسكريين التابعين له، من خلال قانون يسمى ب"السلطات الخاصة" والذي يخول للعسكريين، حق الشرطة وحق العدالة، يعني كل السلطات تحت أيدي العسكريين، من سلطة الاعتقال والتحقيق إلى سلطة المحاكمة والتنفيذ والقتل، مما أعطى للجنرال ماسو كل الصلاحيات الواسعة في معركة الجزائر. الاعتراف بالاختفاء القسري طالبنا به وأنا شخصيا قدمت عشرات المحاضرات في هذا الإطار، وقلت إنها جريمة ضد الإنسانية لا تتقادم، ووالدي أحد هؤلاء المفقودين وقلت إننا لسنا مستعدين لنسيانها.
كيف يمكن أن نكشف هذه الحقائق ودور الأرشيف في ذلك؟ كل الحقائق التي يمكن أن نصل إليها تأتي من الأرشيف، وهذا الأرشيف مصنف، ولكن أيضا فيه ما يقال، فكثيرون لا يفرقون بين أرشيف وآخر، هناك أشكال عديدة من الأرشيف، أولا الأرشيف العسكري وهو تحت السلطة العسكرية وعنده عمر محدد، حيث يرفع السر العسكري على الوثائق في مدة 30 سنة أو 60 سنة حسب تصنيف كل وثيقة، عندما يصل الوقت القانوني يرفع السر العسكري على بعض الأرشيف، مبدئيا وآليا يخرج ذلك الأرشيف من التصنيف، ويصبح أرشيف غير سري، وهذا ما دفع بالرئيس الفرنسي للإعلان عن فتح بعض الأرشيف، وفي الحقيقة هو لا يتفضل على أحد هذا وكما يقال عندنا "بلا مزيتو"، لأن ذلك سيتم بقوة القانون. هناك الأرشيف الإداري عنده أيضا عمرا محددا، عندما يصل إليه لا يبقى أرشيفا سريا ويخرج للعلانية، وهناك أيضا أرشيف رئاسة الجمهورية الفرنسية، ويتعلق بكل الأوامر التي كانت تعطى من الرؤساء بصفة سرية، سواء بتنفيذ أحكام الإعدام بالمقصلة على المجاهدين أو الاعتقالات، وهي أوامر سرية يعطيها رئيس الجمهورية دون أن يعود أو يخبر السلطات أو الهيئات التابعة له. والنقطة الأخيرة هي الأرشيف التاريخي وهو الأرشيف المتعلق بالحادثة التاريخية، مثلا التجارب النووية، هذا ملف سري للغاية، ولكن مرّ الوقت ليرفع عنه السر العسكري، وهنا أصبح من حق كل باحث يطلع على هذا النوع من الأرشيف، وقد باشروا بنشره سنة 2005 عندما وضعوا على الأنترنت أول تقرير سري حول التجارب النووية في الجزائر، وأنا أملك نسخة منه، هم في فرنسا احترموا القانون وبدأوا الكشف عن الأرشيف السري. اليوم أصبح الأمر معروفا عالميا، وليس أمام الفرنسيين إلا الاعتراف بالجرائم التي ارتكبوها في الجزائر، وبالتالي التعويضات وأمور أخرى. الآن عندنا موضوع أيضا السلاح الكيماوي والتجارب التي قامت بها فرنسا في "وادي الناموس"، وهذه التجارب مصنفة جريمة ضد الإنسانية، في معاهدة روما 17 جويلية 1998، والتي تنصّ على: "يصنّف كل اعتداء على الإنسان بالسلاح النووي أو الكيماوي أو بالتسمم أو التجريب على الإنسان، جرائم ضد الإنسانية"، وفرنسا وقعت على هذه المعاهدة سنة 1999، وهي ملتزمة بها وعليها اليوم أن تعترف، فرنسا تأخرت 19 سنة عن الاعتراف بجرائمها.
ماذا عن الأرشيف الخاص بالجزائريين؟ هناك وثائق أخرى يخاف منها بعض الجزائريين، وهذا الموضوع لا يهمني، لكن يُقال أن هناك بعض الوثائق تخص أشخاص خانوا الجزائر، وأولئك الذين كانوا يلعبون على الحبلين كما يقال، أو عندهم ما يعرف بالصفة المزدوجة "قبعة مزدوجة" ويخافون كشفها للعلن. لكن هذا كذلك قسم من الأرشيف وهذا الصنف من الأرشيف بعض الجزائريين متخوفون من إحضاره إلى الجزائر، وفرنسا محتفظة به وهو وسيلة ابتزاز، لكن في يوم من الأيام ستخرج لنا هذه القنبلة، أتمنى أن لا أكون يومها ولا أسمع بها حتى. ما يهمّني أن يساهم الأرشيف الفرنسي في الكتابة الصحيحة للتاريخ.
كيف يمكن الاستفادة من الأرشيف من أجل كتابة التاريخ الجزائري الحقيقي؟ هم يقولون أنه يجب إعادة تشكيل الأرشيف، وهنا المشكلة تعود إلينا في الجزائر، مثلا أحضرنا منذ عام ونصف صندوقين كبيرين من فرنسا، قدمهما لنا كلود أغاك وهو عسكري فرنسي عمل مع الجنرال ماسو، وكان مستعدا لإعطائنا أسماء الجزائريين المختفين، وأين تم دفنهم ووعد بالمجيء للجزائر، ليكشف لنا عن مكان دفهم وكيف تمت تصفيتهم ومن هم، لكن السلطات الجزائرية لم تسمح له بدخول الجزائر، وطلب منا أن نحضره نحن ذهب أحد الأشخاص من طرفنا، عن طريق وزارة الشؤون الخارجية وكان من المفروض بعد إحضار الأرشيف أن يتم تسليمه للمعني بالأمر، لكن بقي عندهم وقتا طويلا لمعاينته، ثم تم تسليمه مباشرة للأرشيف الوطني. ولكن اذهبي إلى هناك أو يذهب أحدهم ويطلب أن يطلع على أرشيف كلو أغاك، يقول لك لا شيء مهم لقد كتبه بيديه، لكن الأرشيف حقيقي هو هناك، لأنه أرشيف عسكري وفيه أسماء من قتلوا وكيف قتلوا ومن قتلهم ومن أعطى الأمر. وللأسف الأرشيف الوطني لم يعط أهمية لهذا الأرشيف، ولا نعلم مصيره ولا يسمحوا لنا بالاطلاع إلا على ما يريدون فقط. إذن فالأرشيف حتى لو تحصلنا عليه، فهنا لا يعرفون أهميته، ولا كيفية استغلاله لأجل كتابة التاريخ. كيف يمكن أن نعرف تاريخنا الحقيقي إذن؟، أقوم بهذا كله من أجل أن يكتبوا عنه هنا، كل ما أعرفه وتحصلت عليه هو من كتاب ومؤرخين من خارج الجزائر، هنا لا يقومون بشيء، لا يكتبون ولا يبحثون ولا يقدمون شيئا، من هو المؤرخ الذي فتح هذه المواضيع وتكلم عنها هنا في الجزائر؟
بالنسبة للجانب الجزائري كيف يمكن أن نستفيد من هذا الأرشيف بعد رفع السرية عنه؟ بصراحة لا أعرف كيف سيفعلون، لكن الأرشيف عندما يأتي يكون مشفرا وعنده أرقام مرجعية بالنسبة للفرنسيين، عندما يدخل للجزائر سيعطي له مركز الأرشيف الوطني شيفرة أو ترقيم جديد ويضعون أيضا طبيعة الوثائق، سواء عسكرية في أي سنة ومن أي هيئة أو إدارة، هو عمل علمي، ومن المفروض أن يقوم بذلك الأرشيف الوطني، لكن هل لديهم القدرة والمعرفة لفعل ذلك والفرز والتحديد والتشفير، هل يعرفون ذلك؟ المشكل أن الأرشيف كله باللغة الفرنسية ومن يعملون في الأرشيف أغلبهم معربين، أنا لا افهم كيف سيتعاملون مع أرشيف من وقت الاستعمار، إنها مشكلة حقيقية وكبيرة، كيف سيتم الأمر لا أعلم، ليس عملي أنا احضر الأرشيف، لكن لست من أقوم بمعالجته فهو عمل المختصين في الأرشيف ويسمى بعلم المكتبات.
بالنسبة للأرشيف المتعلق بباقي الأحداث ما هي الخطوات القادمة التي يمكن أن تقوم بها الجزائر للمطالبة به؟ أنا أبحث في الأرشيف لأنه تاريخ، وهو مادة للعمل، بالنسبة لمثقفة جزائرية، فهذا طلبي، نحن اليوم نسمع ما يقوم به الطرف الفرنسي فقط، لكن الدولة الجزائرية ماذا فعلت في هذا الجانب؟ هل سمعنا يوما خطابا سياسيا يساند ما قاله الرئيس الفرنسي؟ لم أسمع بذلك،. لكن من الناحية السياسية أنا لا أعرف بما يفكرون ما يهمُّني هو أن استرجع الأرشيف. عندما بدأنا الحديث عن أحداث 8 ماي 45 لم يسمعنا أحد، لكن الآن نملك أرشيفا شخصيا، تحصلنا عليه بتعبنا من قراءة الكتب ومن الاتصالات مع المؤرخين والأساتذة، طلبنا الوثائق اللازمة والتقارير التي نريد. الدولة الجزائرية لم تقدم لي شيئا، كل ما أبحث عن وثيقة يقولون لا نملك، أسافر لدول أجنبية لأبحث عما أريد وادفع من أموالي للحصول عليه، ولذلك أقول من الجانب الرسمي، لا أعرف كيف سيتم التعامل مع هذا الأرشيف في الجزائر، هل سيحضرون الأرشيف في السرية ثم يخفونه، أو يرمونه، أو سيتكلمون عنه. لا أعلم. مثلا يوم احضروا أرشيف الإذاعة والتلفزيون الجزائري، حاولت أن أعرف ما يوجد، فلم أجد إلا الأغاني والرقص، أنا لا احتاج هذا الأرشيف. ربما يهم من يعمل على موضوع تطور الموسيقى الجزائرية. أنا كباحثة فيما تفيدني تلك التي تغني أو التي "تشطح"؟. هل فعلا يستحق هذا الأرشيف كل تلك الضجة التي حدثت حوله، "عيب عليهم"، هل احضروا أرشيفا حول فنان أدى أغنية ومن أجلها دخل إلى السجن أو قتل؟ لا يوجد. إذن الأرشيف هناك ما يستحق وهناك ما لا يستحق.
هناك من يخاف إحضار الأرشيف لكن ليس فقط لأنه يكشف حقيقة البعض، لكن يقولون ليس كل الأرشيف الفرنسي حقيقي، هناك تلاعب بالأحداث وما هو ملفق ويجانب الحقيقة أو يزيفها تماما، كيف نفرق؟ مثلا في حرب التحرير يسمون المجاهدين في فرنسا ب"الفلاقة" أو الخارجون عن القانون، نحن نسميهم الاستقلاليين، الذين يبحثون عن الاستقلال، وهو طلب سياسي وأنساني، أما الإرهابي هو الذي يرتكب جرائم ضد السكان والدولة، هم يتلاعبون بالتاريخ وبالمصطلحات وبالأحداث، يرتكبون المجازر ويرون ذلك عاديا وعندما فجر الجزائريون آنذاك قنابل لم ينسوا ذلك أبدا. لذلك نحن عندما نسترجع أرشيفنا سنغربله من طرف باحثين. وهذه القصة التي يتكلمون عنها اليوم بدأت مع فتح ملف التجارب النووية خلال ملتقى حول "الأثر الإنساني للأسلحة النووية" الذي نظمه مجلس الشيوخ الفرنسي بباريس سنة 2014، حيث قدمت محاضرة قلت فيها إن الجزائر ضحية التجارب النووية الفرنسية، وكان الحضور نوعيا من وزراء دول عديدة، وهنا بدأت الصحافة خاصة المتخصصة تكتب عنه وعما طرحته، في نهاية السنة ذهب وفد مع الوزير السابق عبد المالك سلال إلى فرنسا للاتفاق على عدد من النقاط مع الدولة الفرنسية ومن بينها الأرشيف والتجارب النووية والتعذيب وغيرها، لأنه عندما نتحدث عن الاختفاء فنحن نتحدث أيضا عن الذين ماتوا تحت التعذيب، صادقوا وقتها على بروتوكول تعاون وأنشأوا لجنة في الجزائر تحت إشراف وزارة المجاهدين، وكل المواضيع طرحت في إطار هذه اللجنة، والجانب الفرنسي قد اشتغل على هذه القضايا وتقدم في هذا الاتجاه، أما نحن المعنيين بالأمر فما نزال متأخرين.