توحي المؤشرات المسجلة هذه الأيام في أرض الواقع بتكرر السيناريو نفسه الذي عاشه الجزائريون أثناء بداية الأزمة الصحية غير المسبوقة التي شكلها انتشار فيروس كورونا المستجد في مدينة ووهان الصينية مطلع السنة الجارية، حيث تجددت فوبيا الخوف لدى عامة الجزائريين مع بداية الموجة الثانية لفيروس كورونا، منعكسة بشكل مباشر على سلوكيات الاستهلاك، إذ تسجل مختلف الأسواق، والفضاءات التجارية، ونقاط البيع، تهافتا محسوسا على بعض المواد بعينها، لاسيما مادة الفرينة والسميد، من أجل تخزينها أمام انتشار إشاعات في وسائل التواصل الاجتماعي، تروج لندرتها وفقدانها بشكل كامل في الفترة المقبلة. مدن مليونية من دون قواعد لوجيستية وحسب حريز زكي، رئيس الفيدرالية الجزائرية لحماية المستهلك (تنظيم يؤطر أكثر من 40 جمعية موزعة عبر الوطن)، فإن سلوك تخزين المواد الغذائية من قبل السواد الأعظم من الجزائريين "ثقافة قديمة جديدة محفوظة في العقل الباطني للأسر، باعتبار أن جذور هذه الظاهرة تعود إلى فترة الاستعمار التي كان خلالها 80 بالمائة من سكان البلاد يقطنون في البادية ويعمدون إلى تخزين احتياجاتهم في ما يسمى آنذاك بالمطمورة، من منطلق أن جل المواطنين كانوا يشتغلون في مجال الفلاحة، لتستمر هذه الظاهرة حتى بعد الاستقلال ويشتد أثرها أثناء عُمر الأزمات الطارئة، بالرغم من الانفتاح، وتحرير السوق، وترويج السلطة لتوفر السلع والبضائع".
المستهلك متورط وضحية في آن واحد وفي هذا السياق، يرى المتحدث ذاته أن المستهلك مسؤول عن هذه الظاهرة التي تتسبب في اضطرابات كبيرة في السوق وضحية في آن واحد، مُفسرا ذلك بالضعف الكبير الذي يميز سلسلة التموين بدليل وقوع اضطرابات كبيرة بمجرد حدوت تساقط كثيف للثلوج أو أمطار طوفانية مثلما حدث في بعض المناطق قبل سنوات مضت، حيث اختفى وقتها الكثير من المواد الاستهلاكية لأيام عديدة، ما جعل المواطنين في حيرة كبيرة. واستشهد حريز على كلامه بالتقصير المفضوح المسجل من قبل السلطات العمومية، ومسؤوليتها المطلقة في انعدام الثقة لدى عامة المواطنين بالرغم من خطابات التطمين التي يتم إطلاقها أثناء حالات الطوارئ والأزمات، حيث أوضح بأنه "لحد الساعة لا تملك الجزائر قواعد لوجيستية يتم الاستعانة بها لتموين السوق في الظروف القاهرة، (زلازل، فيضانات، انتشار أوبئة، وغيرها من الظروف الأخرى)، علما أننا نعيش في مدن مليونية آهلة بالسكان".
الدولة عاجزة عن طمأنة المستهلكين وحتى القمح الذي يعد مادة إستراتيجية في غذاء الجزائريين، يضيف مسؤول شريحة المستهلكين، "لا نملك مخزونا كافيا يسمح بطمأنة المواطنين، وعقلنة استهلاكهم أثناء الأزمات، باعتبار أن المخزون يكفي فقط لمدة ثلاثة أشهر، فضلا عن عدم تحكمنا التام في مواضع تخزينه، لأن أغلبية المخزون موجود في مواضع مؤجّرة في فرنسا، نتيجة عدم وجود صوامع لتخزين القمح بالجزائر، في انتظار مشاريع إنجاز هذه الصوامع التي تعرف تأخرا كبيرا في تجسيدها". والحل لهذه المعضلة المستمرة منذ سنوات، يضيف حريز زكي، تكمن في إيجاد السبل الكفيلة بتحقيق السيادة الغذائية، من خلال رفع قيمة إنتاج المواد الاستهلاكية للجزائريين وتأمين قوتهم من حدود 40 في المائة حاليا إلى 70 أو 80 في المائة مستقبلا، مردفا بالقول "لا توجد دولة في العالم لا تستورد، ولكن ينبغي تقليص حجم الاستيراد إلى الحدود الدنيا الممكنة.. وقتذاك ستتغير سلوكيات التخزين غير المبررة، لأن ثقافة الندرة هي التي أنتجت مع مرور الوقت ثقافة التخزين".
الهلع الاستهلاكي.. كابوس يهدد الخزينة العمومية من جهته، يرى الدكتور عبد الرحمان عيّة أستاذ علم الاقتصاد، في تصريح أدلى به ل"الخبر" أمس، أن "الهلع الاستهلاكي الحاصل بسبب الجائحة، ومن قبله الهلع المالي الذي عاشته مختلف المؤسسات البنكية، من خلال تدفق المودعين لسحب أموالهم، ما أنتج أزمة سيولة مالية خانقة، مبني بالأساس على الإشاعة، باعتبار أن الخطاب السياسي تشوبه دوما الشكوك من قبل عامة الشعب، لأن صناعة القرار السياسي من قبل دوائر السلطة، أعطت مع مرور الوقت مؤشرات للمواطنين يتم قراءتها بشكل عكسي". وبلغة الأرقام التي يجيدها، اعتبر المختص الاقتصادي ذاته أن "الهلع الاستهلاكي في الجزائر يختلف كلية عما هو مسجل في دول أخرى، إذ أن الإقبال يتركز عندنا على عشر مواد أساسية على أقصى تقدير، تكلف خزينة الدولة أموالا باهظة، ما يهدد هذه الأخيرة باختلالات مالية قد تكون عواقبها خطيرة جدا، في ظل استمرار الأزمة الاقتصادية، والتراجع المستمر لمداخيل النفط في السوق الدولية"، مضيفا أن "التركيز لدى المستهلكين ينصب أساسا على الفرينة وبودرة الحليب، اللتان تكلفان لوحدهما 4 مليارات دولار قيمة استيرادهما سنويا، من أصل 9 مليارات دولار فاتورة المواد الاستهلاكية الغذائية للجزائريين، وقيمة الاستيراد الكلية المقدرة ب19 مليار دولا".
أزمات أنتجت فوبيا التخزين لدى الجزائريين وعند دراسة هذه الظاهرة التي تحولت إلى ثقافة راسخة لدى الأغلبية الساحقة من المواطنين، يرى المتابعون أن أسبابها ودوافعها تعود إلى محطات وأزمات اضطرت الأسر إلى التأقلم مع الوضع بالتخزين مخافة الندرة. ولعلّ أول محطة تعود إلى ثمانينيات القرن الماضي، عندما كان يضطر الجزائريون إلى التوقف في طوابير طويلة ولا متناهية أمام أسواق الفلاح آنذاك، أو بعض الشركات الوطنية، أو استجداء معارفهم واستعمال الوساطة من أجل الظفر بشريحة زيت أو علبة قهوة أو كيس دقيق أو فرينة، لدرجة أن بعض الأشخاص كانوا يقفون في طوابير وهم لا يعرفون مُنتهاها، ولا الغرض من وراء تشكّلها. وتلت هذه المرحلة أحداث 5 أكتوبر 1988، التي زيادة على حصيلة القتلى والجرحى التي ترتبت عنها، حتّمت على عامة الأسر والعائلات التزوّد بالمواد الغذائية الأساسية بكميات كبيرة خشية استمرار هاته الاحتجاجات التي تُوّجت بإقرار دستور جديد أنهى هيمنة الأحادية الحزبية، وفتح المجال للتعددية السياسية والإعلامية. بعد هذه الحقبة، عاش الجزائريون مرحلة الإرهاب العصيبة، وسنوات الجمر التي استغرقت عشرية كاملة تقلصت فيها مصادر العيش، وانخفض فيها حجم استيراد السلع والبضائع، ما أثر على قوت الجزائريين الذين ظلوا طيلة هذه المدة يعتمدون على التخزين لمواجهة أي اضطرابات متكررة في السوق الوطنية. وبمجرد انقضاء فترة الإرهاب، ترتبت أحداث وأزمات أخرى في مناطق بعينها، مثل أحداث القبائل التي اندلعت في أفريل 2001 واستمرت لمدة سنة كاملة، ما أدى إلى التموّن الإستباقي للأسر، والأمر نفسه عاشته منطقة غرداية بعدها لفترات متقطعة نتيجة صراع بين العرب المالكيين والأمازيغ الإباظيين، انتهى بحصيلة من القتلى والجرحى نتيجة المواجهات بين الطرفين المتنازعين. وفي 2011، وبالتحديد في يوم 5 جانفي، أياما قليلة قبل انطلاق الربيع العربي في تونس، وبعدها في معظم البلدان العربية، شهدت أغلب ولايات الجزائر احتجاجات عارمة، أطلق عليها آنذاك اسم ثورة الزيت والسكر نتيجة الارتفاع المفاجئ المسجل في أسعار هاتين المادتين، ما انعكس على حياة وسلوكيات المستهلكين الذين عانوا من ندرة حادة في العديد من المواد التي يعتمدون عليها في موائدهم. ويتكرر "بسيكوز" التخوف من القادم المجهول، مع حلول المواعيد الانتخابية الفاصلة، الأمر الذي يدفع عامة الأسر إلى التدفق على المحلات والفضاءات التجارية لشراء ما يمكن شراؤه، خاصة في الانتخابات التي اعتراها الغموض والاحتقان، على شاكلة الانتخابات الرئاسية لسنة 2014 التي تقدم إليها الرئيس السابق دون أن يقوم بحملته الانتخابية وهو فوق كرسي متحرك. وإلى جانب الأزمات الجانبية التي تأتت بفعل تساقط كثيف للثلوج أو فيضانات في بعض الولايات، تُعد أزمة كورونا الجارية آخر محطة لحد الساعة دفعت كل الأسر والعائلات إلى تخزين المواد الاستهلاكية والأدوية والمستحضرات الطبية وغيرها من المواد الأخرى، بعد أن تسلل إليهم الخوف من العدوى بهذا الفيروس المستجد الذي لا يزال شبحه يحوم منذ قرابة سنة كاملة.