يقول الحقّ سبحانه مخاطبًا يوسف عليه السّلام: {وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}، فقوله تعالى: {وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ}، أي: يُعلّمك تفسير الرّؤيا، فالرّؤيا الصّادقة حالة يكرّم الله بها بعض عباده الّذين زكت نفوسهم، فيكشف لهم عمّا يريد أن يطلعهم عليه قبل وقوعه. ومن الأحاديث الّتي وردت في فضل الرّؤيا الصّالحة ما رواه البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنّها قالت: "أوّل ما بُدئ به رسول الله من الوحي الرّؤيا الصّادقة، فكان لا يرى رؤيا إلّا جاءت مثل فلق الصُّبح"، وأخرج مسلم في صحيحه من حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما قال: كشف رسول الله صلى الله عليه وسلم السِّتارةَ والنّاس صفوف خلف أبي بكر فقال: "أيّها النّاس: إنّه لم يبق من مُبشّرات النُّبوة إلّا الرّؤيا الصّالحة يراها المسلم أو ترى له، ألَا وإنّي نهيتُ أن أقرأ القرآن راكعًا أو ساجدًا، فأمّا الرّكوع فعظمّوا فيه الرّبّ عزّ وجلّ، وأمّا السّجود فاجتهدوا في الدّعاء، فَقَمِّنٌ أن يستجاب لكم"، وأخرج الترمذي في جامعه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال:"إذا اقترب الزّمان لم تكد رؤيا المؤمن تكذب، وأصدقهم رؤيا أصدقهم حديثا، ورؤيا المسلم جزء من ستة وأربعين جزءا من النّبوة"، فمعنى قوله صلّى الله عليه وسلّم: "إذا اقترب الزّمان" أي: في آخر الزّمان، وذلك عند كثرة الفتن، وغُربة الدّين، وشدّة الحاجة إلى المبشّرات الّتي تطمئن بها قلوب المؤمنين، ولذلك قال: "لم تكد رؤيا المؤمن" فهي خاصة بالمؤمنين، وقوله: "جزء من ستة وأربعين" قال الخطابي: قيل معناه: أنّ الرّؤيا تجيء على موافقة النّبوة لا أنّها جزء باق من النّبوة، وقيل: المعنى أنّها جزء من علم النّبوة لأنّ النّبوة وإن انقطعت فعلمها باق، وقوله صلّى الله عليه وسلّم: "أصدقكم رؤيا أصدقكم حديثا" دليل على أهمية الصّدق، وأنّ أصدق النّاس كلاما هو أصدقهم رؤيا. وتنقسم الرّؤيا إلى ثلاثة أقسام: "الرّؤيا ثلاث: فرؤيا حقّ، ورؤيا يحدث بها الرجل نفسه، ورؤيا تحزين من الشّيطان"، ففي هذا الحديث بيان من النّبيّ صلى الله عليه وسلم بأنّه ليس كلّ ما يُرى في المنام هو من الرّؤيا الصّالحة، فما يراه الإنسان في منامه من المفزعات والمزعجات هو من الشّيطان ليحزن المؤمن بذلك، وما يراه ممّا يعرض له في يومه وليلته فتلك الأحلام، وأحاديث النّفس تعرض له في اليقظة فيحلم بها في منامه، ففي الصّحيحين من حديث جابر رضي الله عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "إذا رأى أحدكم الرّؤيا يكرهها فليبصق عن يساره ثلاثًا، وليستعذ بالله من الشّيطان ثلاثًا، وليتحوّل عن جنبه الّذي كان عليه"، وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "فإن رأى أحدكم ما يكره فليقم فلْيُصَلِّ ولا يحدث بها النّاس". وتعبير الرؤيا علم شريف، خصّ الله تعالى به بعض أوليائه الصّالحين الّذين لا يخلو منهم زمان ولا مكان، وقد أرشد النّبيّ صلى الله عليه وسلم من رأى رؤيا ألّا يقصّها على كلّ أحد: "الرّؤيا على رِجْلِ طائرٍ ما لم تُعَبَّر، فإذا عُبّرت وقعت، ولا تقصّها إلّا على وادٍّ (محب) أو ذي رأي" ومعنى (على رِجْلِ طائرٍ) أي: أنّها كالشّيء المعلّق برجل الطائر لا استقرار لها، ولعلّ أهمّ الرّؤيا الصّالحة: أن ترى النّبيّ صلى الله عليه وسلم في منامك، وتلك لا شكّ من المبشّرات لمن رآه، فقد روى الشّيخان في صحيحيهما من حديث أنس رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "من رآني في المنام فقد رآني، فإنّ الشّيطان لا يتمثّل بي". وأخيرًا فهناك بعض الأخطاء الّتي يقع فيها بعض النّاس فيما يتعلّق بالرّؤيا، ومن ذلك: الكذب في الرّؤيا، بأن يدَّعي أنّه رأى كذا وكذا وهو لم ير شيئًا: "من تحلم بحُلم لم يره، كُلِّف أن يَعقِد بين شعيرتين ولن يفعل"، ومن الأخطاء اعتماد بعض الجهلة على الرّؤيا في تقرير الأحكام الشّرعية من تحليل حرام، أو تحريم حلال ونحو ذلك، وأخيرًا فليس كلّ من رأى النّبيّ صلى الله عليه وسلم في منامه يكون رآه حقًّا حتّى يراه على صورته الحقيقية الّتي كان عليها صلى الله عليه وسلم، فقد كان ابن سيرين رحمه الله إذا قال له أحد رأيتُ النّبيّ صلى الله عليه وسلم يقول له: صف لي الّذي رأيت، فإن وصفه بصفته الحقيقية قال له: لقد رأيت. والله وليّ التّوفيق. *إمام مسجد عمر بن الخطّاب، بن غازي - براقي