لا أشكّ لحظة أنه: لا يوجد إنسان سمع بما وقع للطفل المغربي الصغير رحمه الله إلا تأثر وتعاطف وتابع أخبار مأساته إلى نهايتها المؤسفة! وإني على يقين أن كل من علم بواقعته ومعاناته تمنى له النجاة والسلامة ودعا الله له أن ينجيَه من كربه ويخرجَه من جُبّه ويعيده سالما إلى والديه، المسلمون والعرب بحكم الأخوة الإيمانية ووشيجة القربى، وغيرهم بحكم الرّوح الإنسانية والتّضامن البشري.. وشاء الله أن يصطفي الطّفل البريء إلى جواره الكريم، والخير فيما اختار الله تعالى بلا ريب ولا مَين. وكلّ ما صحب هذه الواقعة الحزينة والمؤلمة عاديّ وطبيعيّ ومطلوب، وردّة فعل النّاس تجاهها عادية وطبيعية ومطلوبة أيضًا. ولا أتوّقع أن نرى غير ذلك في مثل هذه الحوادث؛ لأنّ البشر مهما اختلفوا وتنازعوا فإنّ المشترك الإنسانيّ بينهم مكين متين في نفوسهم وجِبلّتهم، وهو الفطرة الّتي فطر الله النّاس عليها. فأين النّفاق إذًا؟!، أقول: إنّ الإسلام - دين الفطرة - يقرّر أنّ النّفس البشرية شيء واحد، واحد النّاس كالنّاس جميعًا حُرمة وكرامة، وجميع النّاس كواحد منهم حُرمة وكرامة!، يقول الإمام الهمام ابن باديس عليه شآبيب الرّحمة: "ونحن لما نظرنا في الإسلام وجدناه الدّين الّذي يحترم الإنسانية في جميع أجناسها فيقول: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ}. ويقرّر التّساوي والأخوة بين جميع تلك الأجناس، ويُبَيّن أنّهم كانوا أجناسًا للتّمييز لا للتّفضيل، وأنّ التّفاضل بالأعمال الصّالحة فقط، فيقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}. ويدعو تلك الأجناس كلّها إلى التّعاطف والتّراحم بما يجمعها من وحدة الأصل ووشائج القرابة القريبة والبعيدة فيقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ}. ويقرّر التّضامن الإنسانيّ العام بأنَّ الإحسان إلى واحد إحسان إلى الجميع، والإساءة إلى واحد إساءة إلى الجميع، فيقول: {مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا}". هذه هي نظرة الإسلام وموقفه، والمفروض هذه هي روح الفطرة الإنسانية، ولكنّ الواقع غير ذلك للأسف الشّديد، فقد غلب النّفاق على أكثر النّاس!، وصار النّفاق هو الأصل في التّعامل مع القضايا العادلة والقضايا الإنسانية والقضايا الكبرى. وصار التّمييز بين النّاس هو الأصل! والتّفاوت في قيمة النّاس هي الأصل! والمنفعة والمصلحة هي الأصل! وإلّا كيف نفسّر حجم التّغطية الإعلامية لبعض القضايا وإهمال بعض القضايا الّتي هي أكبر وأخطر؟! وكيف نفسّر التّفاعل (خاصة الرّسمي) مع بعض القضايا والبرودة تجاه قضايا أخرى أهمّ وأعظم؟! إنّ التّعاطف مع الطّفل ريان رحمه الله تعالى والتّضامن معه ومع أهله واجب، وقد قام به أغلب النّاس اهتمامًا ومتابعة وتفاعلًا ودعاءً، وشاء الله أن يرفع روحه الطّاهرة إلى قُدسه بعد أن أحيَا به قلوب كثيرين، وبعث به علاقاتٍ قطعتها شياطين الإنس والجنّ!. ولكن أليس أطفال غزّة وفلسطين أطفالًا كذلك؟! أليس انفجار الصّواريخ والقنابل على رؤوسهم ودويّ الرّصاص في آذانهم أشدَّ ألمًا وإخافة وهلعًا؟! أليس حصارهم ومنعهم الغداء والدّواء والمرح والفرح لسنوات متطاولة عذابًا ما بعده عذاب؟! أليس قتل آبائهم وأمّهاتهم وأقربائهم وأصدقائهم، وتركهم أيتامًا أو معاقين في مسغبة وجَهد وبحار من الحزن بلاءً ما بعده بلاء؟! أليس سجن آبائهم وأمّهاتهم وإخوانهم وجيرانهم وأقربائهم قهرًا نفسيّا لا يدانيه همّ ولا غمّ؟!... فأين هم هؤلاء المتعاطفون والمتضامنون؟! أم هو نفاق لا غير؟! والأمر ذاته مع أطفال سوريا الّذين مسّهم الضّرّ عقدًا من الزّمن تقتيلًا وتشريدًا وتهجيرًا، وبيد من يفترض فيه توفير الأمن والحماية لهم، ألّا تحرّك صورُهم في مخيمات اللّجوء حيث يعضّهم البرد القارس والقصف الأهوج من الخارج والجوع والحزن والخوف من الدّاخل العواطفَ الإنسانية وتدفع للتّضامن والتّفاعل؟! والأمر نفسه مع أطفال اليمن، الّذين يدفعون ثمن حرب حمقاء هوجاء تقتلهم بنيرانها ومجاعتها.. وهكذا أطفال العراق كثير من الدول الإفريقية، وأطفال الأيغور في تركستان الشرقية (المحتلة من الصين)، وأطفال الرّوهينغا... الخ. وحتّى منظمات حقوق الإنسان الدّولية غارقة في هذا النّفاق ومشاركة في لعبته القذرة فأين هم هؤلاء المتعاطفون والمتابعون؟! أم هو نفاق لا غير؟! إنّ ما يزيد هذا النّفاق ظهورًا وافتضاحًا هو تباكي الدّول العظمى والحقيرة منها، وتباكي الإعلام العالمي، وتباكي المنظمات الدّولية على ما يلُم بالأطفال والنّساء.. وكأنّ قتل الرّجال والشّباب الأبرياء حلال مباح!! حتّى تبلّد بسبب ذلك ضمير النّاس وحسّهم أمام قتلهم وما عادوا يتأثّرون لموتهم، ولا يهزّهم إلّا قتل الأطفال والنّساء... وحتّى هؤلاء لا يزيد التأثّر لأجلهم على عواطف تذهب أسرع من ذهاب الرّياح! وقُل الشّيء ذاته بالنسبة للمسجونين ظلمًا، الّذين تغصّ بهم سجون العالم، وتصوّر لو يسجن لاعبٌ من لاعبي الكرة - وخاصة إذا كان نجمًا كما يقولون - ظلمًا وعدوانًا أو في قضية رأي، كيف ستكون ردود فعل الدّول، وكيف سيكون اهتمام الإعلام؟! وآهٍ لو تسجن فنّانة من الفنانات - ممثلةٍ وامرأةٍ في الوقت ذاته! - ستقوم الدّنيا ولن تقعد، وسيترك كلّ رؤساء العالم أشغالَهم ومؤامراتِهم، ولن يدخّروا جهدًا، ولن يهدأ لهم بال حتّى يُطلق سراحها.. واللّاعب والممثل لا قيمة لهم حقيقية ولا ينفعون في شيء ذي بال، مهما لُمِّعت صورهم ورُفعوا قسرًا فوق الرّؤوس، فهم في الأخير مجرّد دُمى في مسرح اللّهو السّخيف! وفي المقابل، من يهتم لسجن العلماء والدكاترة والأساتذة والأطباء والمحامين وغيرهم من الأبرياء ومن نخبة المجتمع وفضلائه؟! ولا تسأل عن الصّمت المطبق والصّمم والبكم والعمى حين يكون المسجون ظلمًا عالمًا من علماء المسلمين أو مناضلًا من الإسلاميين؟! لقد نسيَ كلّ النّاس أو أغلبهم أنّ علماء مسلمين أبرياء بشهادة الجميع مسجونون ظلمًا في كثير من بلاد العرب والمسلمين، ولا ذنب لهم إلّا رفضهم للتّطبيع والصّهينة وقولهم للظّالم: لا! ولكنّ هؤلاء لا تشملهم حقوق الإنسان حسب ميثاق النّفاق! إنّ من يريد أن يستشعر شيئًا من خطورة النّفاق على الحياة البشرية، وأن يلمح شيئًا من وجهه البشع فعليه أن يقرأ القرآن العظيم وهو يتحدّث عن هذا الصّنف الخبيث من البشر، وما أعدّه الله له من عذاب مهين: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}، {إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا}، {وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيم}، كما أنّ من يستحضر خسّة المنافقين وخسّة مواقفهم يفهم جيّدًا قول الحقّ تبارك وتعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا}.. أَلَا إنّ النّاس الأبرياء سواسية في الآلام طفلهم وكبيرهم ومسلمهم وكافرهم، ومن النّفاق الوقح التّعاطف والتّضامن مع بعض دون بعض تحيّزًا وتمييزًا واستغلالًا لآلامهم، {وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُون}، {وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُون}. *إمام وأستاذ الشّريعة بالمدرسة العليا للأساتذة