تقود السلطة التنفيذية سباقا لتوديع حقبة طويلة من التسيير التقليدي والانتقال إلى مرحلة العصرنة والرقمنة، للوصول إلى إدارة فعالة شفافة لا مجال فيها لإهدار الوقت والجهد والمال بكافة القطاعات، ورغم نجاح جهودها في بعض المجالات، على غرار القضاء، فقد اصطدمت بعراقيل في مجالات أخرى أبرزها قطاع العقار الاستراتيجي وقطاع المالية. في قطاع العقار، يؤكد محللون أن الرقمنة هي الحل الوحيد للحد من الفوضى والتلاعبات، وكذا القضاء النهائي على كل أشكال النهب والتزوير والنزاعات العقارية الشائكة التي أخذت أبعادا خطيرة في السنوات الأخيرة، ووصلت إلى حد تعطيل الكثير من المشاريع الاقتصادية والاجتماعية. ومع تأخر مشروع الرقمنة في الجزائر، شهد العقار مشاكل كبيرة من بينها أحكام قضائية عالقة لم تنفذ منذ فترة طويلة، تعود أسبابها إلى ظروف ومشاكل تاريخية وقانونية وحتى اجتماعية، كما تعود لاعتماد نمط التسيير التقليدي في سجلات العقود ومخططات المسح، فانتهاج النظام الرقمي في المجال العقاري يساهم في حل أغلب النزاعات القضائية بصفة نهائية. ولمواجهة المعيقات، يقترح خبراء سَنَّ نصوص قانونية لتدعيم الرقمنة في كافة المجالات، قصد توفير الأمن العقاري وحماية الثروة العقارية على حد سواء، مع تكثيف الجهود في استعمال الرقمنة من قبل المسؤولين والموظفين بالإدارة العقارية، وتوظيف أشخاص ذوي كفاءات عالية بالإدارة العقارية.
مقاومة ضد الرقمنة
وفيما يتعلق بأسباب التأخر، يؤكد الخبير الاقتصادي يوسف الميلي وجود مقاومة حقيقية من طرف الإدارة ضد الرقمنة، لكونها تكرس الشفافية، وتساهم في كشف كل نقاط الضعف والتلاعب في التسيير، إضافة إلى تسهيل محاسبة أي مسؤول متقاعس، وكذلك تسهيل عملية مراقبة ومتابعة أي ملف. وقال يوسف الميلي، في اتصال مع "الخبر"، إن "عملية الرقمنة تسهل اكتشاف أي خلل أو تلاعب في المشاريع والمهام، لذا يكون عمل الإدارة شفافا وواضحا ولا يطرح أي إمكانية للجوء إلى ثقافة إخفاء الملفات للتهرب من المسؤوليات". وفي القطاع المالي، أكد المتحدث أن "الرقمنة تعطي الإحصائيات الحقيقية والأرقام الواقعية التي من خلالها نستطيع معالجة جميع مشاكلنا وإيجاد الحلول للخلل والثغرات التي تضيع من خلالها الأموال العمومية".
ذهنيات تعرقل المجتمع الرقمي
من جانبه، أشار المحلل الاقتصادي عبد الرحمان هداف إلى وجود ذهنيات لم تستوعب أهمية الرقمنة في مختلف القطاعات، إلى جانب التخوف من ما بعد تعميم التكنولوجيات، لأن الكثير من الأشخاص يقعون تحت طائلة الفجوة الرقمية، وهناك أيضا من يرى أن الرقمنة تفقده مصالحه ومركزه ومكانته في السلم الإداري، نظرا لعجزه عن التكيف معها، وهو ما يسمى بالخوف من الخروج من منطقة الآمان. وأضاف عبد الرحمان هداف، في اتصال مع "الخبر"، أن هناك عاملا يتعلق بضبابية هذا المشروع في ظل منظومة تسيير لم يستطيع البعض فيها فهم هذا التحول، وأكد في السياق على ضرورة العمل على تهيئة الفرد وتحسيسه بضرورة الذهاب إلى المجتمع الرقمي. بدوره، قال المحلل السياسي بوبكر سلامي إن عملية رقمنة قطاع المالية سجلت تأخرا كبيرا ربما يعود لتعقيدات العملية، وتغيير المكاتب الأجنبية العديدة التي تداولت على الملف، رغم إمكانية اللجوء إلى المكاتب الجزائرية، وأشار في اتصال مع "الخبر" إلى عدة أسباب أخرى تتعلق بالإمكانيات اللوجستية في الميدان، من بينها مقاومة بعض الذين تعرّيهم العملية وتكشف سوء تسييرهم، والكشف عن حقيقة ما يدور، مع الإشارة إلى أن الكثيرين ممن تضر بمصالحهم هذه العملية يبذلون كل ما في وسعهم لعرقلة العملية. وأشار بوبكر سلامي إلى أن التحدي الأساسي الذي يواجهه فرض الضريبة على ثروة الأشخاص الطبيعيين هو الرقمنة التي تسمح للدولة بإحصاء كل الأملاك والثروات لتحقيق العدالة الضريبية وإخضاع الجميع، وكذلك طريقة حساب قيمة الأملاك.
وضع تصور جديد لتسريع الرقمنة
واعتبر المحلل الاقتصادي عبد الرحمان هداف أن رقمنة الهيئات العمومية بصفة عامة قطعت شوطا لا بأس به، لكن يجب أن يكون هناك تسريع أكبر لرقمنة القطاعات بمنظور استراتيجي، مؤكدا "يجب أن تكون هناك نظرة استراتيجية لرقمنة كل القطاعات، وجعلها أولا مترابطة فيما بينها، وثانيا قابلة للتحيين مع تغير التكنولوجيات". وقال المحلل الاقتصادي "إن قطاع المالية كبير وفيه عدة فروع ونشاطات تنموية، تضم كل ما هو متعلق بالمالية العمومية وبالموازنة، أملاك الدولة، الجمارك.. وكلها هيئات معقدة نسبيا بذاتها، لذا تلزم منهجية عصرية لكي يتم رقمنة هذا القطاع السيادي والاستراتيجي للدولة وبالنسبة للخدمة العمومية". وأكد عبد الرحمان هداف أنه "يجب الإسراع في وضع مركز البيانات الحكومي حيز الخدمة، والحوسبة السحابية الحكومية، وهذا يتطلب استثمارا كبيرا، لكنه سيعود بالفائدة على تسيير الموارد العمومية"، وختم مشددا أنه "يجب أن يكون هناك تصور جديد يسمح لمشروع الرقمنة بالمضي بوتيرة أسرع وبنظرة استشرافية، عبر إسقاطات بعيدة المدى تجعل من الحلول المتبعة فعالة على المدى البعيد".