يؤكد خبراء ومختصون، أن الأزمة الأخيرة بين الجزائروفرنسا وضعت علاقات البلدين أمام نقطة حسم تاريخي، فإما أن تتم إعادة بنائها على أساس النديّة والاحترام المتبادل، وإما أن تذهب إلى القطيعة، محذّرين من أن الانزلاق وراء أنصار القطيعة خيار خاطئ، إذ أن اليمين المتطرف الشعبوي ينتظر هذه اللحظة لتحقيق مكاسب انتخابية وسياسية، كما أن دولا أخرى تتمنى أن يستمر التدهور في علاقة الدولتين في ظل ظروف دولية وإقليمية بالغة الحساسية. العلاقة بين الجزائروفرنسا، علاقة استثنائية ولا تشبه أي علاقة أخرى بحكم عوامل تاريخية وسياسية واقتصادية. وقد مرت خلال ستة عقود من الاستقلال بسلسلة أزمات متعددة، بلغ التوتر السياسي فيها ذروته في بعض المراحل، لكن الأزمة الجديدة تبدو غير مسبوقة، إذ لا تظهر في الأفق مؤشرات للعودة إلى ما قبل جويلية 2024، على الرغم من جملة عوامل ضاغطة على فرنسا كون الجزائر بلدا مهمّا بالنسبة إليها، خصوصا في توازنات منطقة الساحل أو تلك الضاغطة على الجزائر التي تراعي مصالح أكثر من ستة ملايين جزائري يقيمون في فرنسا. فخروج فرنسا بقيادة ماكرون على توازنها في ملف الصحراء الغربية أضعف تقاربها مع الجزائر، إلى جانب الاستغلال السياسي لقضية بوعلام صنصال والمؤثرين الجزائريين المقيمين بفرنسا، وما صاحبها من تصعيد سياسي وإعلامي، جعل من الأزمة الحالية أخطر مرحلة تمر بها العلاقات بين البلدين، إذ أنها تسير بسرعة نحو حالة قطيعة سياسية واقتصادية وتجارية، حيث ترفض الجزائر إعادة سفيرها إلى باريس منذ جويلية الماضي، وتكاد الجزائر توقف باب توريد السلع والبضائع من فرنسا، كما استبعدت الشركات الفرنسية من الحصول على صفقات في الجزائر. وتختلف الأزمة الحالية عن سابقاتها في حدّتها وتسارعها، حيث انتقلت من مرحلة تنظيم زيارة الرئيس تبون لفرنسا، إلى التهديد بفرض عقوبات فرنسية، كتقليص التأشيرات ووقف مساعدات برامج التنمية وفرض تعريفات جمركية إضافية على الجزائر، وإلغاء اتفاقية 1968. علما أن إلغاء الأخيرة يستبعد أن يؤثر على مصالح الجزائريين بشكل كبير. فإذا ألغيت الاتفاقية، يفترض أن نعود نظريا إلى اتفاقيات إيفيان التي تضمن حرية التنقل بين البلدين وفي الواقع، التعديلات المتلاحقة على اتفاقية 1968 أفقدتها معظم الامتيازات التي كانت تخص الجزائريين. لذلك إلغاء الاتفاقية لن يضر كثيرا، لأن الامتيازات الباقية بسيطة. ويلفت مختصون في العلاقات بين البلدين، إلى وجود مشكلة سياسية لدى الطرف الفرنسي في فهم وقراءة التحولات التي تشهدها الجزائر، خصوصا بعد الحراك الشعبي عام 2019، والذي مثّل قطيعة مع النظام السابق الذي تساهل مع مقاربة فرنسا القائمة منذ استقلال الجزائر على القفز على ماضيها الاستعماري وإصرارها أن تتخلى الجزائر على حقوقها. ويؤكد خبراء أن العلاقات بين فرنساوالجزائر، اليوم، في نقطة حسم تاريخي، فإما أن تتم إعادة بنائها على قواعد وأسس تأخذ بعين الاعتبار مصالح كل طرف وتوفر إطارا سياسيا لتسوية القضايا الخلافية، السياسية والاقتصادية والتجارية والثقافية، وإما أن تنزاح العلاقات إلى قطيعة يجري تأثيرها على كثير من النواحي والقضايا الثنائية والإقليمية، تلك التي تلعب فيها الجزائروفرنسا أدوارا ما. فإذا عادت باريس، حسب متابعين، إلى تدبير عقلاني للعلاقة يحترم قواعد التعاون الدولي، يمكن احتواء الأزمة تدريجيا، خاصة أن هناك أطرافا فرنسية غير راضية على الأداء الفرنسي الحالي. ومن هذا المنطلق، اقترح وزير الخارجية الفرنسية زيارة الجزائر التي ينبغي أن تكون منفتحة على الجميع، كما أن سياسة اليد الممدودة بعيدا عن التهديد والوعيد، من شأنها احتواء الأزمة التي لا تخدم مصالح البلدين. ويؤكد مختصون أن الانزلاق وراء أنصار القطيعة خيار خاطئ، اليمين المتطرف الشعبوي ينتظر هذه اللحظة لتحقيق مكاسب انتخابية وسياسية، كما أن دولا أخرى تتمنى أن يستمر التدهور في علاقة الدولتين في ظل ظروف دولية وإقليمية بالغة الحساسية.
وفي سياق الردود التي يبادر بها الدبلوماسي والوزير الأسبق، عبد العزيز رحابي، على التيارات الفرنسية الحاقدة على الجزائر، قال في منشور جديد له، أول أمس، "إن اللهجة الحربية والمتغطرسة في كثير من الأحيان لوزيري الخارجية والداخلية الفرنسيين تجاه الجزائر، أقرب إلى رقصات التافهين منها إلى أزمة دبلوماسية حقيقية، في غياب أي سبب جدّي يبرّر استحضار كل من يكره الجزائر في فرنسا". وبرأي رحابي، فإن الجهات ذاتها "سعت ونجحت في جعل الجزائر قضية ذات أولوية في أجندتهم السياسية، دون أن يدركوا أن ذلك سوف يؤدي حتما إلى أزمات متكررة وصدام السيادات بين البلدين". ويؤكد الدبلوماسي أن "تنامي الشعبوية في البلدان ذات الماضي الاستعماري أو الفاشي، مثل فرنسا وألمانيا وإيطاليا .." أدى حتما إلى " تأجيج ريع الذاكرة السلبية لبعض النخب السياسية والاجتماعية والإعلامية الأكثر نفوذًا".