تحريك الراكد الثقافي في الجزائر بعد سنوات الدم والدموع، لم يكن بالأمر السهل حسب ما يتصوره البعض، فالمرافق كانت شبه مشلولة ومعطلة ومحطمة، والعودة بها إلى الفعل الثقافي يتطلب مجهودا كبيرا ووقتا، حتى تنضج هذه المرافق وتعود إلى العمل من جديد، ومنها المسارح، القاعات، المراكز الثقافية، إضافة الى الملتقيات والندوات والمهرجانات الكبرى، وكذا الصالونات الدولية، خصوصا صالون الكتاب، وقد بدأت الحياة الثقافية بالدبيب ثم بالتحرك شبه السريع لمجاراة الورشات الأخرى التي عرفتها البلاد... تشجيعا للثقافة وإحيائها والسير بها نحو الهدف المنشود، بعد الركود الذي ضربها في الصميم. من الملتقيات الدولية الكبرى ملتقى القديس أو غستين، تحت الرعاية السامية لفخامة رئيس الجمهورية. وكان الهدف منه إعادة الاعتبار للشخصيات الجزائرية البارزة ومنها هذا القديس الذي ما يزال فكره ومذهبه مصدرا من مصادر الفكر المسيحي في أوروبا، وكذا الشخصية الجزائرية البارزة أبوليوس المدوري صاحب "الحمار الذهبي" وكتاب "الأزاهير" والتحولات والذي يعد أول رواية في التاريخ البشري، إضافة الى ملتقيات أخرى، كملتقى بوعمامة، مفدي زكرياء، الأمير عبد القادر، المقراني، عبد المجيد أمزيان، ابن خلدون، ملتقى السماع الصوفي الذي احتضنته تلمسان، ملتقى الزوايا بأدرار، ملتقى الرواية، ملتقى التجانية بالأغواط، ملتقى الشعر الشعبي بتيارت، بالإضافة إلى الملتقيات التي نظمتها المجالس العليا كالمجلس الأعلى للغة العربية، المجلس الإسلامي الأعلى، المحافظة السامية للأمازيعية والجمعيات الثقافية الوطنية، وكل هذه النشاطات كانت تنظم تحت دعم والرعاية السامية لرئيس الجمهورية، يفتتحها حينا وحينا يرسل لها رسائل تدعمها وتشاركها، ومن خلال هذه الملتقيات التي حركت الحياة الثقافية، بالإضافة الى الجوائز الذي أنشأها الرئيس كجائزة القرآن الكريم والجائزة العلمية والفنية والأدبية، إذا ما أضفنا الأيام الدراسية والملتقيات التاريخية، فإننا نجد أن الحياة الثقافية استرجعت عافيتها مبكرا وانطلقت انطلاقتها الكبرى في بداية القرن الحالي 2000 م. أما أهم الأحداث الثقافية التي سجلتها الجزائر، فهي الجزائر عاصمة الثقافة العربية 2007 والتي توجت بإصدار الألف كتاب، أما النشاطات الأخرى فقد كانت مستمرة ودائمة كالأسابيع الثقافية، وعودة بعض المهرجانات الدولية التي كانت متوقفة بسبب الأزمة الأمنية والاقتصادية كمهرجان تيمقاد الدولي ومهرجان الفيلم العربي الذي احتضنته مؤخرا مدينة وهران. عودة الثقافة ليست عودة ارتجالية، بل بعد أن أصبحت الرؤيا واضحة وترميم المعالم الثقافية المحطمة وبناء أخرى، إضافة الى إعادة ترميم وتهيئة القصور القديمة في الجنوب وتأهيل مدينة الجزائر العتيقة "القصبة" بدورها وقصورها، وحصن 22 حصن الرياس، إضافة الى ذلك فتح المتاحف وترميم قاعات السينما كالموقار، الأطلس والشروع في ترميم قاعة إفريقيا، وترميم أضرحة ومعالم الأولياء الصالحين كضريح سيدي عبد الرحمان الثعالبي بأعالي العاصمة وسيدي بومدين بتلمسان، فحياتنا الثقافية عادت إلى الواجهة تستقطب كبار المحاضرين العالميين من عرب وأجانب من القارات الخمس، من أمريكا وآسيا وأوربا في إطار التقارب بين الشعوب في حوار الأديان والثقافات واستعمال التكنولوجيات الحديثة في عصر العولمة التي تحول فيها العالم الى قرية صغيرة. عادت الثقافة الجزائرية إلى الإنبعاث والتجديد والإنتاج وتعدد الكتاب والشعراء والمبدعين القدامى والشباب الى الساحة، وأصبح الجزائريون يحصدون الجوائز الدولية، وهذا ما يجعلنا نقول أن الثقافة تحولت الى ورشة تعمل بعنفوان مثل الورشات الأخرى التي تحرك الجزائر نحو الأفضل في البناء والإنجازات الكبرى.