تمر، هذه الأيام، الذكرى السادسة لرحيل فنان السينما الأشهر والأكثر جدلاً المخرج يوسف شاهين (25 جانفي 1926- 27 جويلية 2008)، الذي أسّس أسلوباً سينمائياً على مستوى الشكل والمعنى لا يُنكره أحد مهما كان الجدل حول السينما التي يقدمها، إلا أن الاتفاق ربما يكون على مستوى اللغة السينمائية ومفرداتها، والتجديد الذي أدخله على فن السينما في العالم العربي، وخاصة مصر. قدّم شاهين طوال مسيرته الفنية التي بدأت في عام 1950 بفيلم "بابا أمين" وانتهت بفيلم "هي فوضى" عام 2007، حوالي 37 فيلماً إضافة إلى 5 أفلام قصيرة، أثار معظمها موجات متباينة سواء بالرفض أو القبول، كان أشهرها قضية فيلم "المُهاجر"، التي أدخلت شاهين إلى ساحة المحاكم، وتم إلغاء قانون الحسبة بسبب هذه القضية، وأصبحت النيابة العامة هي صاحبة الاختصاص في تحريك مثل هذه الدعاوى. نال الرجل العديد من الجوائز العربية والعالمية، أشهرها جائزة الدب الفضي في مهرجان برلين 1979 عن فيلمه "إسكندرية ليه"، والجائزة الكبرى عن مُجمل أعماله بمهرجان كان عام 1997 والاحتفاء بعرض فيلمه "المصير"، إلا أن السمة التي تميز سينما يوسف شاهين هي تجسيد مراحل وعيه الذاتي من خلال القضايا الاجتماعية التي مرّت بها مصر والعالم العربي... بداية من جويلية 1952 وحتى حالة التطرف والقبضة الأمنية التي سيطرت على مصر قبل رحيله.بداية من فيلمه "بابا أمين 1950" نجد أسلوباً مختلفاً في السينما المعهودة آنذاك على مستوى اللغة السينمائية، تكوين الكادر والإضاءة وحركة الممثل، إضافة إلى الأداء التمثيلي الأكثر حيوية مقارنة بأفلام تلك الفترة، إلا أن الفيلم الذي أصبح من علامات السينما هو "باب الحديد 1958"، فكانت الشخصية الرئيسة - قام بالدور شاهين نفسه - وعوالمها غريبة عن السينما التي كانت تجسّد مواقف وحالات الطبقة العليا من المجتمع بخلاف عدة تجارب قليلة ذات قيمة. «الناصر صلاح الدين" هذا الفيلم الملحمي الذي أُنتِج عام 1963، في أوج حركة جويلية وزعيمها الراحل جمال عبد الناصر، معادل للآمال المعقودة على هذا الرجل، فأصبح هو صلاح الدين الذي تغنّى به شاهين في الفيلم، وجعل من الشخصية الدرامية شخصية تكاد تقارب الأنبياء رغم أن بالفيلم مغالطات تاريخية فادحة، إلا أن حركة الإسقاط التاريخي على اللحظة الراهنة، ومناقشة الوضع الآني من خلال التاريخ - سيقوم شاهين بهذا في عدة أفلام بعد ذلك - كانت هي المُسيطرة على الرجل، وكأنه يُقيم احتفالاً يمجّد فيه عبد الناصر.منذ فيلم "الأرض 1970" مروراً ب "الاختيار" و«العصفور" وحتى "عودة الابن الضال 1976"، تغيّر الموقف تماماً، وأصبح الرجل بعد هزيمة يونيو 1967 أكثر منطقية، وقد استفاق من حلمه كما فعل الكثيرون على كارثة لم يكن يحلم بها، فأصبحت المُناشدة بالتمسك بالأرض في حالة رومانسية وأسى شديد، كما يبدو في موقف الفلاح المصري - قام بالبطولة محمود المليجي - وإدانة موقف المثقف ورجل الدين والسياسي، الذين تركوا «الشعب» بمفرده حتى أُخذت الأرض منه بالقوة. يأتي فيلم "العصفور" ليبحث عن أسباب الهزيمة، في بناء درامي مشوّش كما الحالة التي كانت تعيشها مصر وقتها، فلا أحد يعرف كيف ولماذا حدث ما حدث! لتأتي خاتمة الفيلم بخروج طوفان من الشعب هاتفاً: " سنحارب". وفي عودة الابن الضال - المستوحى من فيلم لوكينو فيسكونتي الملاعين 1969 - ويمثل عائلة إقطاعية تسيطر على الحياة في إحدى مقاطعات الريف، ولكن أحد أفرادها المؤمن بعبد الناصر، يعيش في سجونه، ولا يخرج منها إلا بموت عبد الناصر نفسه رغم أنه لم يزل يرى فيه الأمل الوحيد!! المفارقة الساخرة هنا تجسّد حالة الوعي الحاد التي قام عليها الفيلم، بأن يقوم أحد، نيابةً عنك، بتحقيق حلمك حتى وإن كان سجانك، حالة الانفصام هذه عانى منها الكثير من يساريّي وشيوعيّي مصر وقتها. للإشارة، فقد قدّم شاهين أول أفلام سيرته الذاتية عام 1979 بعنوان "إسكندرية ليه؟"؛ أي بعد حوالي 29 عاما من العمل في السينما، ليبحث عن إجابات ظلت تشغله، فحاول الوصول إلى منابعها، من خلال الطفولة والشباب. إضافة إلى ذلك، توالت الأعمال مثل "حدوتة مصرية 1982"، "إسكندرية كمان وكمان 1990"، وأخيراً إسكندرية نيويورك 2004"، والأخير لا يُعتبر من أفلام السيرة الذاتية كما الأفلام السابقة. بعد تطور رحلة وعيه طوال هذه السنوات هناك فكر إيديولوجي يحكم الحكي، وبالتالي لا يستطيع أن يكون مُنصفاً؛ بمعنى أنه الآن يتحدث عن الماضي من خلال رؤية سياسية واجتماعية تكوّنت وقت تنفيذ الفيلم، لذلك نجد الحِس الخطابي العالي كما في فيلم "حدوتة مصرية"، وأن البطل - قام بالدور نور الشريف - هو مثار اهتمام الجميع في كثير من المُبالغة؛ إذ هناك خطاب إيديولوجي حاد في هذا الفيلم بخلاف التلقائية المُعقلنة في فيلم "إسكندرية ليه؟" رغم وجود بعض مظاهر الاقتتال الطبقي، ووجهة النظر من موقف الجيش والثوار، وحسن البنا ورفاقه، كأشهر حالات التصارع الخفي على السُلطة وقتها. أما الفيلم الوحيد الذي يُعتبر من أفلام السيرة الذاتية فهو "إسكندرية كمان وكمان". وقد كان للراحل علاقة وثيقة بالجزائر منذ فيلمه "جميلة بوحيرد" الذي زلزل الرأي العام العربي والعالمي إبان الثورة، وبعد الاستقلال لم تكن تنقطع زياراته عن الجزائر، علما أن هذه الأخيرة موّلت بعض أعماله الفنية، منها تلك التي تناولت جانبا من الحضور الجزائري، كما أشرك في أعماله عدة وجوه فنية جزائرية، منها سيد علي كويرات في فيلم "عودة الابن الضال".