احتضنت المكتبة الوطنية أمس، تظاهرة تاريخية ثقافية فنية من تنظيم المتحف الوطني للمجاهد، تمتد فعالياتها إلى غاية 20 نوفمبر الجاري، تمكن عموم الجمهور من اكتشاف تراث ثورة التحرير الوطنية ونضال الشعب خلال 132 سنة احتلال، ومدى عبقريته في الحفاظ على هويته وأرضه. افتتح اللقاء الدكتور بيطام، مدير متحف المجاهد الذي ثمّن هذه الفعاليات التي تدخل في إطار ستينية الثورة التحريرية، بعدها تناول الكلمة السيد دحمان مجيد، مدير المكتبة الوطنية الذي أشاد بنعمة الاستقلال وبمآثر شعبنا، معتبرا المناسبة محطة من محطات الذاكرة الوطنية التي تفيد في استلهام العبر قصد تجذير روح نوفمبر في الأجيال الصاعدة، كما تحدث عن إسهام المكتبة الوطنية في توثيق هذا التراث الثوري من خلال إنتاجها للكثير من الفهارس والبيبلوغرافيات المتعلقة بالثورة، وذلك منذ استرجاع السيادة الوطنية، وبالمناسبة أيضا صرح المتحدث أن المكتبة سطرت العديد من المعارض والندوات وتقديم عيّنات من محتويات المكتبة تتعلق بوثائق وصور وغيرها. بعدها تم عرض شريط من إنتاج متحف المجاهد بعنوان "جرائم فرنسابالجزائر" تناول في تسلسل مختلف الجرائم التي اقترفها الاستعمار الفرنسي منذ دخوله الجزائر سنة 1830، ابتداء من مجازر الحراش والبليدة، لتتوالى مخططات الإبادة المنظمة حتى مجازر 8 ماي 1945، وصولا إلى الثورة وكانت الصور المقدمة في أشد الفظاعة. عقدت بعدها ندوة تاريخية بعنوان "بيان أول نوفمبر مرجعية خالدة للأجيال" نشطها المؤرخان أحمد حمدي واحسن زغيدي، اللذان أسهبا في تحليل البيان وتوضيح معالم كانت خفيّة فيما مضى. أشار الدكتور حمدي، أن بيان أول نوفمبر وثيقة تؤسس للدولة الجزائرية المستقلة، وهي تعبّر أيضا عن كفاح شعب، مؤكدا من جهة أخرى أن هذا البيان تناوله الكثير من الباحثين لكن ذلك كان بشكل ارتجالي تنقصه الدقة العلمية، كما أنه ظل مهملا عند جمهور أدبائنا وشعرائنا إذ أنهم لم يتحدثوا عنه. استعرض المحاضر البيان من خلال الخطاب الإديولوجي الجزائري، علما أن هذا الخطاب هو من أنتج البيان وأنتج المفردات السياسية التي استمرت إلى ما بعد فترة الاستقلال. ذكر الدكتور أحمد حمدي، أن لغة ومضمون البيان الذي وقعته جبهة التحرير الوطني هو خطاب جامع وهو حصيلة كفاح تمتد إلى دخول الاستعمار للجزائر. حمل هذا الخطاب الإيديولوجي خطابات فرعية منها الدينية والعلمية والسياسية والتراثية وغيرها، كما تضمن أفكارا تحررية مستمدة من تراثنا الجزائري ابتداء من كتابات حمدان خوجة، ثم الأمير عبد القادر، وحفيده الأمير خالد، ومصالي الحاج، وحتى من النوادي والأحزاب والحركة المسرحية التي واجهت كلها الاستعمار الاستيطاني. يرى المحاضر أن هناك ثلاثة أنواع من الخطاب الايديولوجي الجزائري وهي: 1 – الخطاب التقليدي: وهو خطاب متوارث يشمل نوعين طرقي في الزوايا، وإصلاحي مع جمعية العلماء دافع عن الهوية الجزائرية. 2 – الخطاب الاندماجي: نتج عن الظاهرة الاستعمارية التي أوجدت نخبة جزائرية وسيطة بين الإدارة والشعب، وكانت من المترجمين والقضاة وظهرت منتصف القرن ال19، علما أن هناك اندماجا ذاتيا لبعض الجزائريين مع نهاية الحرب العالمية الأولى، تمثل في جمعية النواب المسلمين والتي انقسمت إلى 3 اتحاديات. 3 – الخطاب الوطني: نتج عن الأفكار الاستقلالية وذلك منذ مجيء الأمير خالد، وقد حارب الاستيطان وفي هذا الخطاب يوجد الوطني البراغماتي الذي يرتكز على الهامش القانوني المتاح للقيام بالنشاط اللازم في الساحة كالعمل الصحفي، وحق الملكية والترشح والانتخاب والعدل والمساواة والتنقل وغيرها وهي أدبيات استغلتها جبهة التحرير، في صياغة بيان أول نوفمبر، علما أنها ظهرت منذ فترة حركة نجم شمال إفريقيا. في الخطاب الوطني هناك أيضا الخطاب الثوري والذي تبناه المناضلون الشباب خاصة في الحركة الوطنية، وهو ينزع للحلول الثورية الجذرية ولا يثق في وعود فرنسا خاصة بعد مجازر 8 ماي، ونتجت عنه منظمة "لوس" السرية التي حضّرت للثورة الكبرى. الخطاب الوطني الثوري غيّر المصطلحات وتحايل في ذلك على الإدارة الفرنسية، فحول الحركة إلى اتحاد ثم حزب ثم جبهة، وتطور من مصطلح المسلمين إلى الأمة إلى الشعب إلى المواطنين إلى الجماهير الشعبية ومن شمال إفريقيا إلى الجزائر. وهكذا حمل البيان كل هذا التطور في المصطلحات السياسية وهذا التراث النضالي الذي قضى على الأساليب البالية، فأصبح هذا الخطاب مرجعيا للدولة الجزائرية الحديثة. قام الباحث حمدي، بدراسة علمية للبيان وتناول رموزه الإديولوجية فلاحظ مثلا تكرار مصطلح الوطنية ومشتقاتها 17 مرة وذلك لغرس فكرة الوطن في الوجدان الجماعي، وكلمة نضال ومشتقاتها 13 مرة واستعمار وامبريالية 10 مرات، والعمل 9 مرات والتحرر 8 والاستقلال 6 وغيرها وتكررت هذه المفردات أيضا بعدها في ميثاقي الصومام وطرابلس، وظلت تطبع خطاب جبهة التحرير الوطني. تضمن بيان أول نوفمبر، أيضا أفكارا متعلقة بالهوية والدين واستشراف الدولة الحديثة ومنظوماتها وغيرها. من جهته قدم الدكتور لحسن الزغيدي، قراءة في البيان من خلال ظروفه التاريخية ودوافعه ومن كتبه ومضمونه وأبعاده وغيرها. أكد المحاضر أن البيان صاغه جيل من مواليد الفترة بين 1917 و1927، شهدت ظهور قيم وصراعات ومع نهاية الحرب العالمية الثانية، اهتزت الأمة الجزائرية لقيم ومعالم جديدة كتقرير المصير واستقلال بعض الدول الإسلامية، وقبلها مجازر ماي والاحتكاك مع قوات التحالف عند تفضيلهم للإنزال بها، وكذا ظهور المؤسسات الدولية منها منظمة الأممالمتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والجامعة العربية بقيادة عبد الرحمن عزام باشا، الذي جال أوروبا للتنديد بمجازر سطيف وڤالمة وغيرها من الأمور التي شجعت على اختيار المنهج الثوري المسلّح، علما أن هذا الانفجار تأخر عن تونس والمغرب بسبب اكتشاف وسجن أعضاء "لوس" لتنطلق الشرارة من أجنحة المغرب العربي قبل القلب الذي تمثله الجزائر، واستمرت الاعتقالات والمطاردات قبيل كتابة البيان، علما أن اجتماع ال22 كان من المفروض أن تحضره 60 شخصية ومسؤولو أفواج من مختلف مناطق الوطن. تكفل بكتابة البيان ديدوش بوضياف وعيشاوي وصيغ بإشراف كريم بلقاسم، وبطباعة آلة عبان وصيغ بأدبيات ثورية ولدت من الكفاح السياسي. للإشارة فقد نظم ضمن هذه الفعالية معرض للصور ببهو المكتبة الوطنية يعرض تاريخ المقاومة والثورة.