أكان حتما مقضيّا أن نردّد مع الشاعر أحمد شوقي، وفي أعقابه الأستاذ محمد عبد الوهاب: "إلامَ الخلف بينكم؟"، وهل حُكم على أبناء جيلنا أن نموت غما وكمدا بسبب ما يحدث من مجازر، ومن شتات ومذلة وهوان في هذا العالم العربي الإسلامي، وفي المشرق على وجه التحديد؟ العالم الغربي صار يقول: "هناك اليوم معركة حامية الوطيس بين السنّة والشيعة، يقولها جهارا عيانا بعد أن كان يتحدّث عن الإسلام الأسود فيما مضى، وبعد أن أسهب في التعليق على الإسلام الروسي والإسلام الصيني، غير أنّ المعلّقين الغربيين أنفسهم؛ أي أولئك الذين يدّعون التغور في قضايا الإسلام والمسلمين عبر العالم أجمع، لا يفهمون حقيقة ما يحدث. ولذلك، فهم يردّون الأمر إلى أنّه مسألة بترول وغاز، ومن يبيع أكثر من غيره متذرّعا متحجّجا بالديانة الإسلامية. وفي أثناء ذلك كلّه، تتهاوى الأسعار من عليائها، وتتساقط ميزانيات بأكملها، ويتهدّد خطر الجوع الملايين من أبناء هذه الأمة التي يقال عنها إنّها إسلامية، في حين أنّها تبتعد عن منابع عقيدتها يوما بعد يوم كما تبتعد الجزر البركانية عن شواطئ القارات. ونضيع نحن في خضم التحليلات والتعاليق السياسية، ونجزم بيننا وبين أنفسنا، بأنّ ما يحدث ليس إلاّ سحابة عابرة، ويا ليتها كانت سحابة أو سحابات عابرة! ونرجع إلى التاريخ لنستنجد به حتى نتبيّن طريقنا وموقعنا في هذا العالم الحديث، وتذهب بنا الظنون إلى أننا قد نخرج إلى وضح النهار إذا ما نحن نهجنا نهجه، وما أكثر ما ذهبت بنا الظنون كلّ مذهب منذ الحرب العالمية الثانية! وما أكثر ما جرّبنا النظريات، بل وتقاتلنا باسمها! ولكن، بقي شيء واحد لم نجرّبه بعد حتى وإن كنا، في حقيقة الأمر، قد أخذنا به في حياتنا السياسية، وليس أدلّ على ذلك مما يحدث في الشرق الأوسط في أيامنا هذه، وأعني بذلك الحروب الأهلية بين الأشقاء؛ تماما مثلما حدث في كبريات البلدان خلال القرنين التاسع عشر والقرن العشرين. الروس القياصرة والبلاشقة تحاربوا فيما بينهم وخرجوا من عنق الزجاجة، الأمريكيون تذابحوا خلال الحرب الأهلية في القرن التاسع عشر، الفرنسيون ارتكبوا أقبح المجازر في تاريخ البشرية خلال حرب "كومونة" باريس عام 1871؛ فما الذي يفعله العرب والمسلمون اليوم؟ هل هم على استعداد لخوض حروب أهلية حقيقية حتى يخرجوا إلى ساحة التاريخ، وحتى يكفوا أنفسهم شرور الدماء وأسباب الذلة والهوان؟ وهل الحروب الأهلية كفيلة بأن تُخرجهم من ظلمات التاريخ إلى ساحاته المضيئة المنيرة؟ أغلب الظن لو أنّهم عمدوا إلى الأخذ بأسباب هذا السلوك الأرعن الشائن، لكبّروا أربعا على وفاتهم وغيابهم عن هذا الوجود. لقد كان للأمم الحديثة التي تسيطر على هذه المعمورة أهداف معيّنة، وأرضيات فكرية محدّدة تقف عليها وتنطلق منها، سالت دماؤها، وترمّلت نساؤها، وتيتّم أطفالها، ولكن النتيجة ظاهرة للعيان اليوم. أعوذ بالله من السير على هذا النهج القبيح، ولعنة الله على كل من يفكر في الأخذ به، وكل من تسوّل له نفسه النيل من أخيه في أرض الوطن الواحد، أو وراء الحدود، أو في نطاق هذه الأمة العربية الإسلامية. إني لأستعيد ما قاله شوقي حين نشب الخلاف بين مصر والسودان في مطالع القرن العشرين، وقد أطرب لأنغام وصوت محمد عبد الوهاب، ولكنني أقف بعد ذلك مكسور الخاطر، تائها، لا أميل إلى هذا ولا إلى ذاك. الترمل والتيتّم لا ينبغي أبدا أن يكونا في قواميسنا السياسية من الآن فصاعدا، ومن حق أبناء الجيل الطالع أن ينظروا إلى الحياة نظرة أخرى، لا أثر فيها لغبار الحروب، ولا لمشهد الدماء البريئة وهي تسيل في جنبات الأزقة والشوارع. من حق هذا الجيل الجديد أن يستلم أرضا عربية إسلامية تنطوي على جميع عناصر الحياة الحقيقية، أي، على السلم أولا، ودائما وأبدا، ومن حقه على الذين يسيّرون دفة الحكم في كل مكان من هذه الأرض العربية الإسلامية أن يراهم وقد فاؤوا إلى رشدهم، وعادوا إلى قواعدهم سالمين غانمين دون أن يسفك أحدهم دم الآخر. أتمنى من صميم قلبي، في مطلع هذه السنة الجديدة، أن تتعطل عجلة المجازر والمقاتل، وأن تحل محلها عجلة الخير والبركة.