مما لا شك فيه أن المؤرّخ لمسار أي حركة أو منظمة أو دولة، يعتمد بالدرجة الأولى على ما في أرشيفها من وثائق وإصدارات مختلفة، تكون له مصدرا مباشرا لتناول تاريخها ورصد فعالياتها وإسهاماتها المختلفة . وإن المتتبع لتاريخ الحركة الكشفية الجزائرية منذ نشأتها خلال ثلاثينيات القرن الماضي على يد القائد محمد بوراس - رحمه الله - وغيره من القادة الأفذاذ، يدرك أنّها اعتمدت بالدرجة الأولى على الجانب التطبيقي والتدريب الميداني، لأنها كانت تسابق الزمن وتصارع الظروف من أجل بلوغ غاية واحدة وهي إعداد جيل قادر على تحمّل مسؤولية تحرير البلاد وطرد المعتدين . وبمقابل ذلك لم تُعن كثيرا بالجانب التوثيقي، حيث أغفلت مجال المنشورات والمطبوعات والمنابر الإعلامية كالجرائد والمجلات إلا النّزر اليسير ، مما جعل مؤرّخي الحركة الكشفية في بلادنا في حيرة من أمرهم، جرّاء شح المصادر التي تتناول هذا الرّافد من الحركة الوطنية والإصلاحية . وربما يعود ذلك إلى عوامل عديدة أبرزها : -انتشار الأميّة في أوساط المجتمع الجزائري بفعل سياسة الفرنسَة والتجهيل التي كرّسها الاحتلال . -ضعف الموارد المالية للحركة الكشفية الجزائرية مقارنة بنظيرتها الكشافة الفرنسية بالجزائر . -مطاردة إدارة الإحتلال لقادة الكشافة الإسلامية وترصّد تحرّكاتهم التي كانت تعتبرها تهدّد مصالحها ووجودها بالجزائر . - محاربة هذه الإدارة للحرف العربي، ولكل ما يرمز للحركة الوطنية الجزائرية ويؤكد ثوابتها القارّة . - انتشار الفقر وعدم قدرة الفئة المتنوّرة والنّخبة المتعلمة على تسديد اشتراكاتها في الجرائد والمجلاّت العربية ، التي كانت تعاني نقصا شديدا في مصادرها المالية، مما أدى بها في أحايين كثيرة إلى الإفلاس، ومن ثم التوقف عن الصدور وبالرغم من ذلك فقد ظهرت قبل الثورة التحريرية وباحتشام بعض العناوين الإعلامية الورقية الصادرة عن الكشافة الإسلامية الجزائرية، والتي لم تصمد أمام عوادي الزّمن، على غرار »النشرية« في بداية الخمسينيات وجريدة »صوت الشباب« التي صدر العدد الأول منها في أفريل ,1952 وبعد الثورة أصدرت (الشباب الجزائري) عام 1960 وهي مجلة تُعنى بتربية وتكوين الشباب وقد صدر منها (11 عددا) ... كما كانت الكشافة تستغل جرائد الحركة الوطنية والإصلاحية الصادرة آنذاك، على غرار جريدة المنار لمحمود بوزوزو، وصحف جمعية العلماء المسلمين وصحف أبي اليقظان والاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري وحركة انتصار الحريات الديمقراطية (حزب الشعب) وغيرها ... ولكن وخلال بحثنا الحثيث حول ما تركته لنا الحركة الكشفية الجزائرية من تراث مكتوب ومطبوع عثرنا على إحدى المجلات المغمورة التي تكاد أن تدخل ضمن حيّز المخطوط، وكانت تصدرها الكشافة الإسلامية الجزائرية، وقد أطلقت عليها عنوان ( نشرة داخلية )، وهذا باسم جامعة الكشافة الإسلامية الجزائرية، وقد استوحى المرحوم محمد بوراس هذه التسمية من جامعة الكشافة الفرنسية والإسرائيلية والبروتستانتية واللائكية بالجزائر، قبل إعدامه يوم 27 ماي 1941 صدر عددها الأول يوم الجمعة 23 شوّال 1365 ه الموافق 20 سبتمبر 1946 م وقد تزّين غلافها بشعار ( كن مستعدًا ) المستلهم من قوله تعالى »وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوّة ومن رباط الخيل ترهبون به عدوّ الله وعدوّكم«. وقد نقش هذا الشعار داخل الهلال - شعار المسلمين - والذي أحاط بدوره بزهرة خماسية الشكل ، دلالة على أركان الإسلام الخمسة والصلوات الخمس، ولوفاء القائمين عليها لمبادئ جمعية العلماء المسلمين الجزائريين ولأفكار العلامة عبد الحميد بن باديس وضعت على هذا الغلاف حكمة من حكمه البليغة، التي طالما ردّدها في خطبه ومقالاته وأمام طلبته وتلامذته الذين تناقلوها بدورهم بعد ذلك، وهي لنعوّل على أنفسنا ولنتكل على الله. وقد طبع هذا العدد بالمطبعة الجزائرية الإسلامية بقسنطينة التي أسسها الشيخ عبد الحميد بن باديس والأديب الشهيد أحمد بوشمال والسيد ابن القشي خليل بن محمد في 16 أفريل ,1925 أما العنوان البريدي للمجلة فقد كان على النحو التالي: الكشافة الإسلامية الجزائرية، صندوق بريد رقم 15 مليانة . وبالرّغم من صغر حجم ومقياس هذه المجلة وقلة عدد صفحاتها التي لم تتعد أل (32 صفحة) إلا أنّها كانت ثريّة ودسمة، ومحتوياتها غنيّة بالمقالات والقصائد والمقطوعات الشعرية التي دبّجتها العديد من الأقلام الجزائرية ذات المبادئ الوطنية، وكذا أخبار الكشافة الإسلامية التي انتعش عطاؤها واسترجعت حيويتها واستأنفت نشاطاتها الميدانية ( البدنية والثقافية والتوعوية بعد ارتكاب مجازر 8 ماي ,1945 وبعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، وإعلان إدارة الاحتلال لقانون العفو وفتح المجال أمام أطياف الحركة الوطنية والإصلاحية للنشاط وللصحافة الجزائرية لمعاودة الصدور . وقد كان قلم الصحفي الكبير والوطني الصميم محمود بوزوزو 1918-2007 المرشد العام للكشافة الإسلامية وأستاذ اللغة العربية بمدرسة مليانة الأهليّة في طليعة هذه الأقلام، حيث استهل المجلة بافتتاحية اختار لها عنوان (من وحي الكشفية) وقد ابتدأها بالبسملة والصلاة على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وآله وصحبه وأتباعه، وبالحديث عن دور اللغة العربية التي حُوربت في عقر دارها، ومتأسفا لحرمان الكشّاف من لسان حال بلغة قومه، حتى جاءت هذه المجلّة التي تمنّى لها حياة بالإفادة عامرة، وأيّاما بخير إنتاج مثمرة، وعمرا في نفع أهله مديدا، كما هنّأ جامعة الكشّافة الإسلامية بهذا المولود الإعلامي الذي جاء يسدّ ثلما كان يضيق به صدرنا، ويحقق حلما كنا نعلل به أنفسنا ! وبشرى لك يا أخي الكشاف بهذه الخطوة السديدة. ولم يكتف الأستاذ بوزوزو بهذه الافتتاحية بل نشر مقال ( من تاريخ الكشفية) الذي تطّرق فيه إلى أصل كلمة الكشافة في اللغة العربية وارتباطها بالصحراء، وإلى تاريخ الكشافة في العالم وبدايتها الفعلية عام 1907 على يد الإنجليزي بادن بأول، الذي ذكر أنه ولد في 22 فبراير 1857 ، مرورا بالدول الأوروبية والعربية، كلبنان الذي ظهرت فيه الكشافة عام 1912 وصولا إلى تونسوالجزائر ... كما كتب الشيخ أحمد بوزيد قصيبة الأغواطي مرشد فوج الرجاء بالأغواط، مقالا حول (الكشافة والتربية الأخلاقية) حيث أبرز دور الكشافة في تربية النشء وتهذيبهم ولتقويم أخلاقهم وطباعهم وانتشالهم من مخالب المفاسد ومهاوي المهالك الاجتماعية التي تفسد بها أخلاقهم وتسقم بها أبدانهم مقارنا بين التربية لدى الكشافة الإسلامية وبين نظيرتها الكشافة الفرنسية . أمّا الأستاذ محمد المنصوري الغسيري 1912- 1974 المعلم بمدرسة التربية والتعليم والمرشد لعمالة قسنطينة للكشافة الإسلامية، فقد تناول في مقاله ذي ال 9 صفحات المخيّمات الصيفية لجامعة الكشافة الإسلامية الجزائرية، حيث تطرّق إلى الرّياض الغنّاء التي تقع جنوب غرب مدينة الجزائر والتي كانت حكرا على الكشافة الفرنسية، لكن هذه السّنة (1946) جعلتها إدارة الاحتلال استثناء تحت تصرف الكشافة الإسلامية لمدة شهرين فقط . لكن الذي استوقفني في هذا المقال طريقة معالجته، حيث اعتمد صاحبه على صور بلاغية غاية في الجمال البياني، حيث استخدم السجع ببراعة متناهية، وهو يصف هذه الرّياض »هنا حيث يطيب المقام. ويسود الوئام. ويقلّ الزّحام. وتعذب الأنغام. وتزول الآلام. ويفنى الخصام. ويتقارب الأنام ...« (8) أين اجتمع ما يقرب من 200 شاب مسلم جزائري، تحت إشراف وتدريب قادة من الجزائريين وحتى من الفرنسيين، ذكر منهم : فارس محمد، كاكلان، عبد الحميد بن عبد الرحمن، ديبان، جيجلي محمد، كليمان، محمد المنصوري الغسيري، الآنسة بولان، ابن عبد الوهاب حمدان، بارب، ميموني حذروق ، الآنسة لوتورنور، الصالح الوانشي، الآنسة ألبير، رمضان عبد الحق، لونوقو، رميو، شواسلي كما خصّصت هذه المجلة النشرة الداخلية في عددها الأول وضمن ركن صدى الكشفية مقالا حول الكشافة الإسلامية في الجنوبالجزائري لصاحبه الكاتب الكبير والمعلم المربي والكشاف القدوة الشيخ علي مرحوم 1913- 1984 والذي وقّع مقاله ب »علي مرحوم مرشد كشافة الرّجاء ببسكرة«، حيث دعا إلى ضرورة تعميم المؤسسات الكشفية »وتأييدها ماديا وأدبيا في كامل الوطن الجزائري بصفة عامة وفي الجنوب منه بصفة خاصة ..« وجعل ذلك في مصاف الواجب القومي، ولدى حديثه عن الحركة الكشفية بالجنوب توقف عند فوج الرجاء ببسكرة الذي ينشط في عاصمة صحراء قسنطينة - على حدّ تعبيره - وذكر أنّه تأسس في أول سنة ,1941 وسار سيرا بطيئا في أول عهده بالوجود، تبعا لسنّة النّشوء والارتقاء ، ثم أخذ في النمو والازدهار شيئا فشيئا إلى أن أصبح في مقدّمة الأفواج المعتبرة بفضل نشاط وإخلاص الرجال القائمين على إدارة شؤونه وتسيير حركته .. ويا ليتهُ ذكر أسماء هؤلاء الرجال الخلّص الذين بدأت أسماؤهم تتلاشى من المخيال الاجتماعي وتنمحي من الذاكرة الشهيد محمد بوراس الجماعية وتضيع في متاهات الزمن، وليكون ذلك معينا للباحثين للتأريخ لهذا الفوج . كما شهد لأبناء بسكرة والصحراء احتضانهم للعمل الكشفي، والإنجازات الكبرى التي حقّقوها بفضل الاستعداد الطبيعي الموجود في أبناء الصحراء الذي يؤهلهم للقيام بأهم الأعمال العظيمة. وقد ذكر الشيخ علي مرحوم في مقاله أنّ فوج الرجاء للكشافة الإسلامية ببسكرة كان له دور مميّز في تفعيل الحركة الكشفية على مستوى الجنوب ، لكن هذا العطاء الفيّاض والعمل الدؤوب لم يرق أعداء الجزائر من إدارة الاحتلال الفرنسي، والذين لمّح لهم الكاتب دون أن يفصح عنهم ، خوفا على مصير الكشافة وأفواجها العاملة في قوله »مكث الفوج في سيره الكشّافي الهادئ الرّزين يؤدّي عمله بنظام وسلام إلى أن اغتاظ من نجاحه ونشاطه المتفوّقون والعنصريون .. !« مما أدى إلى توقيفه من قبل رئيس العمالة البريفي بتاريخ 16 أفريل ,1945 وهنا نؤكد أنّ هذا التاريخ الدقيق الذي تم فيه تعطيل الفوج تعرّفنا عليه لأول مرّة من خلال هذا المقال في المجلة . كما أنّ المتأمل برويّة إلى هذا التاريخ نجده يحمل أكثر من دلالة، ف 16 أفريل تأسست فيه المطبعة الإسلامية بقسنطينة، كما أنه التاريخ الذي توفي فيه العلامة الشيخ عبد الحميد بن باديس الذي يعتبره مؤرخو الكشافة الجزائرية الأب الروحي لها، ولم يكن قرار هذا (البريفي) المتعجرف اعتباطياً أو عفويًا .. كما أرّخ لنا هذا العدد من خلال مقال الشيخ علي مرحوم وبدقّة فعاليات المخيم الكشفي العمالي الضخم الذي نظم ببسكرة من 24 إلى 31 ديسمبر 1944 وكان حدثا وطنيا عظيما (14) وقد انبثق عن هذا المخيم تأسيس العديد من الأفواج بمنطقة الزيبان، كفوج الفجر بطولقة الذي رأى النور بمساعدة فوج الرّجاء ، لكن فوج الفجر عصفت به عوادي الزمن، حيث توقف نشاطه وتفرّق أعضاؤه بعد مجازر 8 ماي 1945 التي وصفها الكاتب ب (الأحداث ) لاتقاء انتقام العدو، وقد عبّر عن ذلك الشيخ علي مرحوم في قوله »فأغلق مركزه وشرّد أبناؤه وراحو يهيمون على وجوهم في الطرقات. وحيل بينهم وبين حركتهم المحبوبة التي تهذب أخلاقهم وتقوّم طباعهم«. كما تأسست بعد هذا المخيم عام 1944 عدّة أفواج كشفية أخرى ذكر منها - صاحب المقال - فوج: سيدي عقبة، القنطرة، أولاد جلال، جامعة، برج طولقة (برج بن عزوز) والتي توقفت جميعها عن النشاط بعد هذه المجازر، وما أعقبها من ممارسات لا إنسانية وتصفيّات كيدية وتضييق على الحركة الإصلاحية والوطنية وروافدها المختلفة، وقد تمنّى الكاتب عودة هذه الأفواج إلى الساحة . دون أن ينسى ذكر الأفواج الكشفية الأخرى بجنوبنا الكبير كفوج الأغواط العريق الذي انبلج صُبحه عام ,1937 وفوج: الجلفة، بوسعادة، غرداية، القرارة، سعيدة، عين الصفراء، كولمب بشار، البيض، ويختتم مقاله باستنهاض همّة الكشاف الجزائري من غفوته، وكأنّي به يذكّره حينما دعاه إلى العمل الجدّي والاستعداد لليوم الأغر، ملحمة الشعب القادمة في قوله »كن مستعدا أيّها الكشاف وإلى الأمام والله ناصرك ومعينك «أي ناصرك على أعدائك ومحتلّيك كما حمل العدد مقالا حول النظافة في الإسلام لمحمد الطاهر البكاري مدير مدرسة ابن خلدون ببجاية ومرشد الكشافة الإسلامية بها. وحتى يكون هذا العدد خفيفا على قرّائه متنوعا في محتوياته، فقد ضمّت طيّاته نشيدا للشاعر الأديب قدور الحلوي جاء بعنوان (أيّها الكشاف)، وقد استهله شاديا : صائح المذياع بالبشرى حمل نازح الأنباء في الوقت الأفل قد طوى الآفاق في لمحته طار بالأشواق عنها وانتقل عرفوا الإسلام لم يعزوا له ما عزاه الغير من شؤم الكسل كما حوى العدد نشيدا ثانيا بعنوان الجوّالة الإسلامية للمرشد الشيخ محمد الصالح رمضان القنطري 1914- 2008 أحد قيادات وقدماء الكشافة الإسلامية الجزائرية، الذي افتتحه بقوله : هيّه يا جوّال يا فخر الرجال يا ربيبا للمعالي والكمال أنت من ينشدهُ هذا الشمال فاستمت في نصره حتى ينال خير ما يرجوه في عهد الظلم إلى أن يقول : إيه يا جوّالة العرب الكرام في بلاد حُرّها دوما يُضام ناصروا الحق وسيروا للأمام نحو أسمى مبدأ عند الأنام وهو تحرير الحمى ممّا ألم فاستمت في نصره وتحرير الأنام و الظلم و الحق و النضال.. كلمات تنبض بالوطنية والإخلاص والشجاعة والإقدام، وهي دعوة صريحة لا مرَاء فيها لافتكاك الحقوق والاستقلال وتحرير الوطن المفدّى، وذكر في الأخير أن هذا النشيد واحد من مجموعة أناشيد تحت الطبع، كما نشرت على الغلاف الأخير من المجلة قانون الكشافة وعهدها، وقد كان الكشّاف يحفظهما عن ظهر قلب ويعمل على تطبيقهما . ما أرجوه من القيادة العامة للكشافة الإسلامية الجزائرية الحالية هو إعادة طبع هذا العدد من هذه المجلة الرائدة، وتعميم توزيعها على كل القادة القدامى والمحدثين، وعلى جميع الأفواج الكشفية العاملة على المستوى الوطني .