سما الشعر فوق لغة الكلام ليحكي ما كان وما صار، ويختار من متحف الذاكرة الفلسطينية صورا فظيعة وأخرى جميلة من حياة شعب لا يزال يواجه أهوال الريح بصدر عار وبأقدام ثابتة حتى ولو كانت تقف فوق كثبان الرمل، ولكي لا تأكل هذه الذاكرة الضباع، التفّ حولها كوكبة من الشعراء الجزائريينوالفلسطينيين في قراءات تشبه عمل البستاني الماهر والعارف بلغة الورد والطير، وعلى الرغم من عمق الجرح الذي يرفض الوجدان استحضار ألمه، إلاّ أنّ الذكريات الجميلة التي تسبق الحملات العسكرية كانت هي الباقية وهي القادرة على صنع الحياة والإيمان باستمرارها، ليبقى الشعراء هم الآباء ولتبقى إيقاعات القوافي تصل إلى ما لا تبلغه إيقاعات الرصاص. في إطار فعاليات الأسبوع الثقافي الفلسطيني الذي تحتضن الجزائر فعالياته إلى غاية الثامن عشر فيفري الجاري بعنوان "يوم الشهيد، هبّة الأقصى" هذا التاريخ المصادف ليوم الشهيد والذي هو رمز يربط الشعبين الشقيقين ويستحضر تاريخ قوافل الشهداء التي قدمتها أمة العرب من أجل الحرية والاستقلال، استضافت المكتبة الوطنية أوّل أمس لقاء شعريا مشتركا جزائريا فلسطينيا. في كلمته الترحيبية، أشار الأستاذ علي كشكش (فلسطيني مقيم بالجزائر) إلى أنّ تاريخ يوم الشهيد الفلسطيني يحتفل به في شهر جانفي. كما توقّف عند احتفال العالم بعيد الحب وبالورد الأحمر، بينما وفي نفس اليوم سقط 5 شهداء فلسطينيين، واستعرض المتحدّث الأسماء التي ضمّها الوفد الفلسطيني بقيادة وكيل وزارة الثقافة الفلسطيني، الدكتور عبد الناصر صالح وهم أمان الله عياش وفارس سباعنة وخالد جمعة (شعراء) والمسرحي عامر حليحل، في حين منعت سلطات الاحتلال سفر الدكتور عاطف أبو سيف، صاحب جائزة البوكر للقصة العربية "حياة معلقة" ومنعت أيضا مراسل التلفزيون الجزائري وسام أبو زيد. مواقف جزائرية خالدة قبل انطلاق الأمسية الشعرية، قدّم الأستاذ حسن قادري، رئيس جمعية الصداقة الجزائريةالفلسطينية محاضرة وقف من خلالها على التاريخ المشترك بين الشعبين والذي يعود إلى الهجرات الكنعانية إلى الشمال الإفريقي، ثم بعدها عبر الفتوحات الإسلامية، وصولا إلى تاريخ الولي الصالح سيدي بومدين الغوث الذي قاده المغاربة انطلاقا من تلمسان ليحارب جنبا إلى جنب مع صلاح الدين الأيوبي وتبتر يده في معركة حطين وتدفن في أرض فلسطين لذلك سمي بسيدي بومدين ذو القبرين، وكعرفان له، أهداه الناصر صلاح الدين وقفا إسلاميا سمي بباب المغاربة وهي أوّل حارة هدمها الاحتلال الإسرائيلي بعد نكبة 67. أشار المحاضر إلى أنّه رغم وطأة الاحتلال الفرنسي، إلا أن الشعب الجزائري، ممثلا في قواه الحية بقي وفيا، لذلك تصدى للمؤامرة البريطانية منذ وعد بلفور من خلال مقال كتبه العلامة ابن باديس سنة 1917 بعنوان "فلسطين الشهيدة"، ودعا المسلمين لصدّها، كما وجّه برقية احتجاج إلى فرنسا ورسائل دعم لأمين الحسيني، إمام القدس. وتواصل هذا الدعم بعد سنة 48 مع العلامة الإبراهيمي وكذا من خلال مشاركة الجزائريين في حرب 48. كما كان موقف الأحزاب الجزائرية آنذاك نفسه، من ذلك موقف حزب الشعب ابتداء من سنة 37 ، حيث تم الإعلان عن جبهة للدفاع عن فلسطين، وقام علماء الجزائر بتأسيس لجنة لإعانة فلسطين، وتتواصل هذه المواقف حتى اندلاع ثورة التحرير، وهنا يذكر الأستاذ قادري اجتماع بعض قادة الثورة في القاهرة سنة 59 ببيت القدوة، وهو أخ الراحل ياسر عرفات ووعدوا بدعم فلسطين إذا انتصرت الجزائر، وهكذا ومنذ الاستقلال، تغيّرت الحكومات والرؤساء لكن بقي الموقف من فلسطين واحدا وثابتا. وهنا استحضر المحاضر اسمين تركا بصمتهما في الذاكرة الفلسطينية وهما الراحل بومدين الذي يوصف بالسيف البتار وكذا الرئيس بوتفليقة الذي فتح جمعية الأممالمتحدةلفلسطين من خلال دورتها ال29 لذلك كان يقول عنه عرفات "لولا الجزائر لما كنت ألقيت خطابي"، وبقيت الجزائر بعيدة كلّ البعد عن التدخّل في الشؤون الداخلية الفلسطينية. الكلمات تصوّر حكايات استهل قراءات هذه الأمسية الدكتور عبد الناصر صالح، الذي عانى ويلات السجن وكتب فيه اللحظة الحاسمة، كما رسم فيه خارطة الفرح وراح يصوغ في زنزانته سنة 89 المجد ويعزف نشيد البحر ويشيد مدائن الحضور والغياب ثم يأتي كالفارس القادم من الحرب إلى العرس ويدخل حلبة الرقص. قرأ الشاعر لذكرى فدوى طوقان وقال في مطلعها: "لست وحدك تفتحين البياض، خلف الجدار خطى الراحلين، من يكفكف دمع السما" ولأنّ المقام كان مقام شهيد أكثر منه مقاما للشعر، فقد أنشد ممثل وزارة الثقافة الفلسطينية شيئا من "أغنية الدم". الشاعر خالد جمعة حمل هموم المخيم الذي يحمل كيمياء خاصة وذاكرة كاملة وأصبح شريحة تمثل المجتمع، إذ كما يوجد القروي والمدني والتاجر، هناك أيضا المخيمي، وأكيد أنّ هذه الذاكرة لم تأخذ حقها كاملا رغم إنتاجها لبشر ذوي خصوصية تتّسع لأكثر من عمر واحد. قرأ جمعة لروح الشهيد عرفات "جردات"، معتبرا أنّ الشهداء ليسوا أرقاما، وهنا حكى عن هذا الشهيد ذو ال30 سنة من العمر الذي اقتيد إلى السجن هكذا دون تهمة وبعد 6 أيام استشهد تاركا يارا ذات ال4 سنوات ومحمد صاحب السنتين، وقال: "أنا السهل أنا العنيد، أنا الوالد أنا الوليد، أنا العتيق أنا الجديد، أنا الماء أنا الحديد". كما قرأ "جلالة الملك"، وهي قصيدة ساخرة من بعض الحكام الذين ملكوا الرقاب، مثلما قرأ جمعة كلمات للشهيد محمد أبو خضير. شاعر فلسطيني آخر جاء من فلسطين يحمل طلة درويش وكبرياءه، هو فارس سباعنة الذي تأثّر بالقراءة الأمازيغية فرد بقراءة لمحكية شعبية فلسطينية في نوع الغزل، ثم قرأ بدوره للشهداء والأسرى ولكلّ فلسطين المسجونة من وراء جدار تخترق حاجزه بنور ذاكرتها التي تصل العالم، قرأ لتراب الوطن ولكلّ جميل في فلسطين يرفض الموت. الشاعر الجزائري إبراهيم صديقي، هزّ القاعة وشدّ الوفد الفلسطيني الذي كان يقاطعه ويقول "يا إبراهيم إقرأ لنا للصبح نحن معك"، وقرأ جزائريون آخرون منهم نور الدين طيبي الذي وقف عند الحال العربي الراهن وتوفيق ومان وعلجة مقداد في الشعر الأمازيغي التي شدّت بحضورها الحضور.