أغلق أردوغان 16 قناة تلفزيونية و23 إذاعة و45 صحيفة و3 وكالات أنباء وأوقف 11 مديرا مسؤولا للنشر. وفصل أكثر من 1500 ضابط سام والآلاف من المسؤولين في مختلف المؤسسات والإدارات والوزارات. والمئات الآخرون حُوّلوا إلى السجون والعدالة بتهمة التآمر والمشاركة في الانقلاب مباشرة أو بالتواطؤ. الرئيس التركي يواصل عمليات تطهير شاملة وتصفية خصومه الذين ارتكبوا حماقة الانقلاب وفشلوا. فشلٌ حوّله أردوغان وأتباعه من الإسلاميين إلى فرصة لبسط السيطرة نهائيا على دواليب ومفاصل الحكم في كل المواقع، ومن ثمة "غلق الدومينو" كما يقول المثل الشعبي في وجه منافسي "السلطان الجديد" لسنوات عديدة قادمة؛ لقد ضيّع الانقلابيون "الجمل بما حمل"، كما يقول المثل العربي. الولاياتالمتحدةالأمريكية اعتبرت الأمر في البداية شأنا تركيا داخليا. وصرح البيت الأبيض بأنه يتفهم ما يقوم به أردوغان وأتباعه، قبل أن يستدرك كيري وزير الخارجية ليقول: إن البيت الأبيض يتمنى أن لا يتخذ الرئيس التركي قرارات تطهير شامل يتعارض أو يمس بالحريات والحقوق وحرية الاختلاف، والفرق واضح بين التمني والاحتجاج الرسمي. ولعل الموقف الأوروبي كان أكثر جرأة من التصريح الأمريكي وإن ظل حبيس "الكلام" والبيانات التي يمكن قراءتها وتصنيفها في خانة الاستهلاك الداخلي. فلقد سارعت بروكسيل وباريس وألمانيا إلى القول إن ما تقوم به الحكومة التركية من "انتقام" وتعدّ على الحريات والحقوق الفردية والجماعية، أمر يعطل انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي. الدبلوماسية التركية تدير وجهها إلى الجار الشرقي الحكومة التركية، من جانبها، توقعت واستشرفت تبعات ما تقوم به مسبقا، فغيرت بوصلة دبلوماسيتها نحو "الغريم الشرقي"؛ أي روسيا؛ من خلال اعتذار صريح عن حادثة إسقاط الطائرة الروسية وإبداء رغبة علنية بالتعويض المادي في مكالمة هاتفية بين أردوغان وبوتين، أذابت سحبا من القطيعة والتوتر والحصار السياحي الروسي على تركيا، بل أعلنت أنقرة عن زيارة مرتقبة لأردوغان إلى موسكو، تزامنت مع دعوة موسكو مواطنيها للعودة إلى منتزهات أنطاليا وإسطنبول والمدن السياحية التركية للسياحة والتسوق. وتعبيرا عن حسن النية واستدراكا لخطإ إسقاط الطائرة الروسية، غيّر أردوغان حكومته ووزير خارجيته؛ إيذانا بتوجه سياسي ودبلوماسي جديد، فأعاد العلاقات مع إسرائيل، وغيّر مواقفه من الأزمة في سوريا. وصرح بأن تركيا ستفتح صفحة جديدة مع دول الجوار بدون استثناء. تحوّل فسره المحللون السياسيون بأنه تغيير جذري وتوجه جديد في الدبلوماسية التركية، يوحي بيأس تام في مسعى الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي الذي ظل يتماطل ويختلق كل العراقيل والأسباب لتعطيل انضمام تركيا رغم أنها عضو فاعل في الحلف الأطلسي، وتعتبر القوة العسكرية الرابعة عدة وعتادا في أوروبا. محللون طرحوا السؤال الأكثر جرأة عن حقيقة الانقلاب بعض المحللين ذهبوا بعيدا في تحاليلهم وقراءاتهم لما وقع في تركيا، وطرحوا السؤال الأكثر جرأة وإثارة أو استفزازا: هل ما حدث في تركيا ليلة 16 جويلية الماضي (انقلاب حقيقي)؟ وهو الذي جرى يوما واحدا بعد مجزرة نيس الفرنسية. أطراف عديدة باتت تقول إن ما حدث مجرد مسرحية محبكة الفصول بدقة عالية من تخطيط أردوغان نفسه، تهدف إلى تجذير الإصلاحات والتوجه الإسلامي التي اصطدمت بمقاومة العلمانيين من بقايا الضباط والعسكريين ومسؤولين فاعلين في مفاصل الدولة ومنابع القرار والسلطات. وكان ما حدث "مخطط" يهدف إلى إحداث الصدمة، وحربا استباقية لا تترك مجالا للخصوم لتنظيم صفوفهم أو جمع قواهم. الأردوغانية كنموذج حكم.. أو السلطان الجديد يقول هؤلاء المحللون إن أردوغان وحلفاءه وأتباعه باتوا يمسكون دواليب الحكم بقبضة حديدية ستفرض "الأردوغانية " كنموذج للحكم لفترة طويلة. يصفه المحبون بالسلطان الجديد الذي سيحيي الإمبراطورية العثمانية. وينعته الخصوم بأنه الانحراف الكبير، ونهاية مرحلة أتاتورك والدولة التركية المعاصرة. ما سبق هو قراءة حاولت فهم ما يحدث في بلاد صديقنا أردوغان، وهي أزمة تهم الأتراك قبل غيرهم وإن كنا اليوم نعيش في عالم أُلغيت فيه كل الحدود نتيجة عولمة تقوم على الفضاء المفتوح، وتغذّيها تكنولوجيات اتصال فوق الحدود والأجناس والألوان والديانات وأنماط الاقتصاد والسياسات. لماذا سكت الأوصياء عن حرية التعبير والرأي في بلادنا؟! السؤال الذي يهمنا ونود طرحه هو: لماذا سكت المتبجحون في بلادنا بالدفاع عن الحريات؟ نحن نطرح سؤالا علنيا وبحثا في فائدة "الأوصياء الجدد" عن حرية التعبير وسماسرة السياسة الذين صدّعوا رؤوسنا طويلا بالبكاء عن إغلاق قناة تلفزيونية أو متابعة جريدة أو موضوع صحفي كاذب أو تهمة قذف ومغالطة. لماذا سكت هؤلاء و«دسوا رؤوسهم كالنعام تحت أجنحتهم"؟!. إني لا أستثني منهم أحدا؛ سياسيين ورؤساء أحزاب كانوا أم صحافيين. أم يمكن الصمت عن انتهاكات حرية التعبير والرأي إذا كان الفاعل "ولي نعمة"؟!. إني أقصد أولئك الذين ارتموا في "حجر" أردوغان في بداية الربيع العربي، معتقدين أن رياح الفوضى ستصل إلى الجزائر، ومن ثمة قدّموا أنفسهم بدائل للحكم في الجزائر إذا سقط النظام (كما يصفونه). راهنوا على دعم دول خليجية وعلى تركيا، فكثفوا زياراتهم ولقاءاتهم وتمجيدهم لتلك الأنظمة، بل كانوا يتبجحون بأنهم استُقبلوا من طرف أردوغان ومن طرف الأمير الفلاني والمسؤول الفلاني، وتحادثوا مع السفير الفلاني... مشاريع رؤساء الربيع العربي! الحاصل نصّبوا أنفسهم حكاما أو على الأقل مشاريع رؤساء إذا هب الربيع العربي على الجزائر. للأسف بعضهم تولى حتى مسؤوليات حكومية عليا أو مسؤوليات في مواقع قيادية. وبمجرد أن أُبعد سارع إلى العودة من أبواب بلدان كانت فاعلة في زعزعة الأنظمة والبلدان العربية. مازالت شعوبها تدفع فواتير تلك الحماقات والأخطاء نتيجة تدخّل عسكري وتواطؤات في الداخل والخارج تحولت اليوم إلى بؤر تفرخ الإرهاب وتزرع الموت في كل ربوع العالم. إن الذين خططوا للفوضى الخلاقة وزرعوا الفتن ودبروا الانقلابات وزعزعة أنظمة الحكم في العراق وليبيا وسوريا واليمن... هم يدفعون اليوم فواتير أخطائهم وحساباتهم، وكذلك الذين اعتقدوا من الجزائريين الذين أعنيهم وهم يدركون أنهم المعنيون. إن فرصة الانقضاض على الحكم في الجزائر حانت، أخطأوا حين هرعوا إلى عواصم التواطؤ طالبين المساندة وتقديم أنفسهم أوراقا بديلة للحكم والتغيير في الجزائر. هؤلاء كانوا يجهلون مغزى المثل العربي: أن من يجعل الباز (النسر) للضرغام (الأسد الكاسر) صيده (أي وسيلة لاصطياد الأسد) تصيده الضرغام فيمن تصيد (أي أكله الأسد مع نسره)... والحديث قياس للذين يدركون أني أقصدهم. هم اليوم عادوا من أبواب التملق حين أدركوا أن الجزائر عصيّة عليهم وعلى من راهنوا عليهم في حساباتهم أيام الربيع العربي؛ الشعب يعرفهم لكنهم هم لا يعرفون الشعب أو استصغروه.