حقق قطاع الإعلام في الجزائر في السنوات الأخيرة خطوات عملاقة في مجال توسيع ميادين النشاط وتكريس حرية التعبير والصحافة، حيث تم رفع مستوى آليات تأطير وتحصين هذه الحرية إلى المستوى الدستوري من خلال التنصيص على الأحكام التي تكفل حرية الرأي والتعبير في الدستور الجديد المصادق عليه في السابع فيفري الماضي، لتتوج بذلك المكاسب الجديدة التي تحققت للقطاع بفضل برنامج الإصلاحات السياسية، ومن أبرزها تمكين أهل المهنة من فتح قنوات تلفزيونية خاصة واستغلال نشاط السمعي البصري، في انتظار استكمال المشاريع الأخرى التي فتحت ورشاتها من أجل ترقية المهنة وإيصالها إلى الاحترافية المنشودة. يأتي إقرار يوم وطني للصحافة من قبل رئيس الجمهورية عبد العزيز بوتفليقة والذي تحتفل به الأسرة الإعلامية اليوم للعام الرابع على التوالي، ليؤكد العناية التي توليها السلطات العليا في البلاد لتطوير وترقية وتنظيم هذا القطاع الحيوي، الذي يعتبر من أعصاب رقي وازدهار أي مجتمع من المجتمعات. كما يبرز تخصيص عيد وطني للصحفيين عرفان الدولة بالجهود التي يقدمها أهل المهنة وتضحياتهم من أجل خير هذا الوطن، اقتداء بجيل الثورة المجيدة، وتثمينا للمسيرة الشاقة والحافلة بالمخاطر التي خطتها الصحافة الجزائرية، من عهد الاستعمار الفرنسي إلى مختلف مراحل الثورة، ثم بعدها مرحلة الاستقلال والبناء ومرحلة التعددية التي اصطدمت بمآسي عشرية الدم والدمار، التي قدم خلالها الإعلاميون وعمال القطاع تضحيات جسام. وإذ يشهد قطاع الإعلام في الجزائر اليوم حركية استثنائية صنعها تعدد المؤسسات الاعلامية التي جاءت لتدعم القطاع وتعزز الكم الهائل من الصحف المتواجدة في الساحة، مع ما أفرزه الانفتاح على القطاع السمعي البصري، من ظهور قنوات خاصة تجاوز عددها ال55 قناة، فإن واقع المشهد الإعلامي الذي يمتاز عن العديد من الدول بالكم الهائل من الصحف والنشريات التي تجاوزت ال150 نشرية، عكرته بعض مظاهر الانحراف المترتبة عن عدم استكمال الإطار الضابط للمهنة وغياب التكوين اللازم وابتعاد بعض الممارسات عما تقتضيه الاحترافية وروح المسؤولية الواجب توفرهما لدى كل أفراد الأسرة الإعلامية. وإن كانت الآليات المرتبطة بضبط المعايير الأخلاقية للعمل الصحفي، والتي تقع على الصحفيين ذاتهم وتستدعي إسهامهم، تنتظر استكمال مسار تنظيم أسرة الصحافة من خلال الورشات التي فتحتها الهيئة الوصية لتحديد هوية الصحفيين الحقيقيين، عبر مشروع بطاقة الصحفي المحترف وكذا تنصيب مجلس أخلاقيات مهنة الصحافة، فإن الدولة من جهتها لم تتماطل عن أداء واجبها في دعم مكاسب حرية التعبير والرأي، من خلال تعزيز آليات تأطير وتحصين العمل الإعلامي، وتكريس حرية الإعلام وحق المواطن في الوصول إلى المعلومات، حيث خص الدستور الجديد، مجال دعم حرية التعبير والصحافة بمادة كاملة هي المادة 50 التي تمنع أي تقييد لحرية الصحافة المكتوبة والسمعية البصرية وعلى الشبكات الإعلامية، كما تسمح بنشر المعلومات والأفكار والصور والآراء بكل حرية، شريطة عدم استعمال هذه الحرية للمساس بكرامة الغير وحرياتهم وحقوقهم، وأن يتم ذلك في إطار القانون واحترام ثوابت الأمة وقيمها الدينية والأخلاقية والثقافية. كما يمنع الدستور بموجب المادة 51 إخضاع جنحة الصحافة لعقوبة سالبة للحرية، وبالتالي فهو يحرم إدخال الصحفي السجن على ما يكتبه وينشره في وسائل الإعلام، وذلك تساوقا مع القرار الذي أقره رئيس الجمهورية في 2011 والقاضي بتعديل قانون العقوبات، وإلغاء الأحكام التي كانت تنص فيه على حبس الصحفي. أكثر من ذلك، لم يقتصر تكريس حق الوصول للمعلومات على ممارسي مهنة الإعلام، بل تم توسيعه ليشمل طبقا للمادة 51 ذاتها، المواطن أيضا، الذي يحق له بموجب الدستور الحصول على المعلومات والوثائق والإحصائيات ونقلها، على أن لا تمس ممارسة هذا الحق بحياة الغير وبحقوقهم وبالمصالح المشروعة للمقاولات ومقتضيات الأمن الوطني. وبالتالي يرفع الدستور الجزائري حرية التعبير والإعلام إلى أعلى درجة من درجات التأطير القانوني الكافل لهذه الحريات، مع إزالته لكافة القيود القبلية وعقوبتي السجن والمنع من الكتابة على الصحفي. من جهته، يضمن قانون الإعلام الصادر في 2012 حرية ممارسة العمل الإعلامي عبر مختلف الوسائط، بما فيها المواقع الإعلامية الإلكترونية وكذا القنوات الإذاعية والتلفزيونية الذي أقر فتحها لأول مرة في تاريخ الجزائر. كما أعاد هذا القانون ترسيم الأطر القانونية والتنظيمية للمهنة، مع تحديد دور الدولة في مساعدة الصحافة وضمان الحقوق الاجتماعية والمهنية لمحترفي الإعلام، وإلغاء جميع العقوبات الخاصة بالسجن التي تضمنها قانون الإعلام السابق الصادر في أفريل 1990. وفضلا عن إقراره فتح القطاع السمعي البصري أمام القطاع الخاص، والذي تم تأطيره بموجب قانون خاص بهذا المجال صدر في 2014، ثم بعدها إصدار النصوص المرتبطة بدفتر الشروط المنظم لسير وعمل هذه القنوات، وضع قانون الإعلام الأخير القاعدة الأساسية لترقية آليات الرقابة والضبط الإعلامي، ومنها سلطتا ضبط نشاط الصحافة المكتوبة ونشاط السمعي البصري ومجلس أخلاقيات المهنة الذي يرتقب تنصيبه قريبا، كما نص على حق الإعلاميين في الاستفادة من برامج تكوينية يجري حاليا تنفيذها بإشراف وزارة الاتصال، التي قامت بفتح مراكز لتكوين الصحفيين وتنظيم دورات لصالحهم، منها دورات مفتوحة على المواطن حتى يستفيد من أبجديات العمل الإعلامي ويطلع على كيفيات رصد المعلومة الموثوقة، فيما يرتقب قريبا تعزيز الأطر القانونية للمهنة بقانون الإشهار الذي ينتظر أن يكون له دور كبير في ضبط نشاط المؤسسات الإعلامية. علاوة على هذه الآليات القانونية، جاءت التعليمات التي قدمها الوزير الأول عبد المالك سلال، لوزير الاتصال من أجل تسريع تطبيق إستراتيجية تطهير وترقية قطاع الإعلام ولاسيما في شقها المرتبط بتنظيم مجال السمعي البصري وإنهاء الفوضى العارمة التي تعتريه، لتؤكد حرص الدولة على ضبط العمل الصحفي وإخراجه من مسار الانحراف الذي انساق فيه، لاعتبارات سياسية وأحيانا شخصية مرتبطة بأطماع ومصالح ضيقة، إلى مساره الحقيقي المحدد في برنامج الإصلاح الرامي إلى إرساء قواعد صحافة محترفة ومعلومة موثوقة. ضمن هذا المسار، تندرج الورشات المتعددة التي فتحها القطاع وبدأها بتنصيب اللجنة الوطنية المؤقتة لتحديد هوية الصحفيين، التي قامت بتسليم أكثر من 4 آلاف بطاقة صحفي محترف، فضلا عن تدابير أخرى يجري تنفيذها تدريجيا، لوضع حد للممارسات غير الأخلاقية التي تفشت في القطاع، كانتشار مظاهر القذف والكذب والابتزاز ومخالفة القانون في مجالات التوظيف وعدم التصريح بالصحفيين لدى مصالح الضمان الاجتماعي وحرمانهم من حقهم في التكوين ومنع التهرب الضريبي والتصدي للامتناع عن دفع حقوق التأليف بالنسبة للبرامج التي تبثها بعض القنوات التلفزيونية الخاصة. كل هذه الآليات القانونية والتنظيمية التي أوجدتها الدولة من أجل تحصين عمل الصحفيين وترقية قطاع الإعلام بشكل عام، تؤكد ثبات الدولة على تثمين مكاسب الممارسة الديمقراطية وترقية الحقوق والحريات في المجتمع، ليبقى على الصحفيين على اختلاف انتماءاتهم ومجالات عملهم، احترام الضوابط الأخلاقية للمهنة والالتزام بالمسؤولية والاحترافية، مع التسلح بالتكوين الضروري والانتظام في هياكل مهنية للدفاع عن حقوقهم التي يكفلها الدستور وكافة القوانين التي تنظم المهنة، ليتم بذلك الارتقاء بمكانة الصحافة الوطنية إلى المستوى الذي يتطلع إليه المواطن الجزائري، ويسمح لها بتأدية دورها الحقيقي في إنارة الرأي العام ومرافقة الجهود الوطنية.