صرح الرئيس بوتفليقة عند خروجه من البيت الأبيض في 5 نوفمبر 2001 (وكنت من الشاهدين المرافقين): «إن مكافحة الإرهاب باتخاذها صبغة عالمية ينبغي أن تجنّد أقصى الوسائل العسكرية والسياسية والدبلوماسية والمادية أو المالية... غير أن توفر كل هذا يقتضي اجتثاث مسببات الإرهاب في حد ذاتها؛ إذ لا بد من أن توجه الضربة لجذور هذه الظاهرة»... واستحضر الرئيس بوتفليقة في تلك الآونة (وكان على ذكاء عظيم في الاستناد) ما قاله سماحة قداسة البابا يوحنا بولس الثاني: «إذا كنت تسعى إلى السلم فاذهب إلى ملاقاة المعدمين». منذ البداية أدرك الرئيس بوتفليقة «منابع» الغلو والتطرف والعنف والإرهاب، وشخّصها بدقة كانت أعمق من الفهم المجرد للبعض، والسطحي في معالجة الظاهرة ومكافحة الإرهاب للبعض الآخر، بل يذكر الناس جميعا ممن لهم الفطنة وحسن الذاكرة والإدراك (ولو مؤخرا) بأن كثيرين تسرّعوا في الفهم والحكم على تصريحه البليغ ذي الأبعاد العميقة في فهم وتشريح الأزمة التي كانت الجزائر تتخبط فيها في تلك السنوات. لقد تكلم الرئيس المرشح للرئاسيات في تلك الحملة الانتخابية بشكل أوحى للبعض وكأنه «متعاطف» مع حالتهم ووضعهم. تحدّث عن المغرّر بهم من المسلحين الشبان الذين التحقوا بالجبال تحت غطاء «الجهاد»، بأنه ربما يعذرهم، وأنه لو كان في ظروفهم ومعاناتهم ربما لكان تصرف مثلهم. بالتأكيد إن رسالة المرشح السيد بوتفليقة يومئذ يجب أن ينظَر إليها بعمق السياسي الماهر والخبير النفسي البارع، وبنظرة من أدرك عمق الأزمة وتعقيداتها، ويسعى إلى إيجاد أنجع علاج فعال لكن في زمن يحول دون تورمها أكثر. صعب أن تقنع من تقطعت به السبل وتساوى عنده الحق والباطل، والصواب والخطأ، والكفر والإيمان. يتطلب الحنكة والخبرة والذكاء وسعة المعرفة وعمق التحليل علاج ظلم ذوي الحكم والقول والحيف والفقر والإحباط. ومن كل ما كان المدبرون والمخططون والممولون يستندون إليه في تجنيد ضحاياهم من المستضعفين من ضحايا الأسباب سالفة الذكر. تسرّع المتنطعون يومئذ إلى القول بأن الرئيس «زكّى» هؤلاء وبيّض أفعالهم!؟.. وكم تسبب المتنطعون وتجار السياسة وفقراء العقل والفهم في ظلم الناس بأحكام جاهزة متسرعة! منذ البداية وضع الرئيس بوتفليقة يده كما يقول المثل على الجرح. ومعرفة مكمن الجرح هو منطلق لتحديد مبعث الألم، كما هو معلوم عند الأطباء، خاصة الجرّاحين منهم. القضاء على الإرهاب يبدأ باجتثاث المنابع من هذا المنطلق أو بالأحرى من هذه المقاربة سجلنا تصريحه في 28 مارس 1999 من عنابة وهو يضع على رأس أولوياته لإطفاء نار الفتنة: اجتثاث منابع الإرهاب. وحصر تلك المنابع التي يتغذى منها الذين خرجوا عن شعبهم، في أزمة السكن والعمل والتعليم والماء والنقل والتهميش والإدارة والكرامة والتفاوت التنموي بين الجهات... وقال في ذلكم التجمع الشعبي الانتخابي ب «أنه لا يملك الخاتم السحري لحلها جميعا في وقت قياسي... ويعد الجزائريين ببذل قصارى جهده لحل مشاكل الجزائريين». ولعل البرنامج الخماسي لدعم الإنعاش الاقتصادي (2005 / 2009) والذي خصص له الرئيس بوتفليقة ميزانية ب 422 مليار دينار؛ أي ما يعادل 55 مليار دولار، كان تجسيدا لأكبر وعد انتخابي في التكفل بأهم قضايا الجزائريين، سيما الفقراء منهم. وفي مقدمة تلك الأولويات الاجتماعية والتنموية (وهي في الحقيقة لا تُحصى ولا تُعد، وكل شيء أولوية في بلد أنهكته سنوات الجنون الإرهابي والفوضى والتدمير الذاتي لإمكانيات وثروات البلاد والعباد). ثم توالت البرامج التنموية وسياسات الدعم متعدد الأوجه، ولم يعد سهلا إحصاء أو جرد الإنجازات التي تحققت حتى وإن كان الجاحدون و«قطّاع الطرق السياسية والإعلامية» في منابر الظلام ومن سفارات وعواصم التواطؤ حول موائد (....). مؤسف أن تشترى التصريحات والمواقف والتعاليق الصحفية ضد الوطن مقابل فيزا بخمس سنوات أو منحة دراسة للأبناء أو دعوة «مشبوهة» لغداء، آخرها قبل أيام في سفارة «السعادة الكبرى التي تعتقد أنها وصية على الجزائريين»!؟ رغم أن دبلوماسية الرئيس بوتفليقة والمصالح التي ليس لها في القلب غير الجزائر، أفسدت كل حساباتهم وأفشلت مخططاتهم، وخرج بعضهم من الباب الضيق في بلاده انتخابيا. لما جاء الرئيس بوتفليقة.. لما جاء الرئيس بوتفليقة كانت الجزائر منهكة «متعبة» مثقلة بمديونية لم تعد تسمح إمكانياتنا المالية حتى بشراء الدواء وحليب الأطفال والقمح للفقراء، وقطع غيار تحرك ما تبقّى من جرارات وشاحنات وحاصدات وحافلات نجت من جحيم الحرق، وبقايا مصانع لم تحرق، أو بالأحرى لم يأت دورها للحرق والتخريب. كل شيء كان متوقفا إلا آلة الموت والحرب الأهلية. لم يكن ينبض في القلوب غير الإيمان بالأجل المحتوم وحب الوطن الذي هب من أجله ما تبقّى من الوطنيين الصامدين الواقفين؛ من مجاهدين وجيش وقوات أمن ورجال مقاومة وإعلام... جميعهم لم يرضخ لظلم الذين خرجوا عن شعبهم وواصلوا التصدي ومكافحة الإرهاب والاستشهاد اليومي حتى يحيى الوطن. كم كنا وحدنا نقاوم وهم يتفرجون بل ويتلذذون!؟ أطبقوا حصارا شاملا على الجزائر: برا وبحرا وجوا. زرعوا الفتنة بيننا. وللأسف علينا أن نعترف جميعا بأنهم نجحوا في ذلك، ثم ابتدعوا «من يقتل من؟». وشكّكوا في كل ما يحصل رغم أن كل تلك المخططات تمت في مخابرهم حتى وإن نُفّذت بأياد جزائرية، تطرفت عن جهل أو بمال أو انتقاما لواقع مر أو ظلم وحيف ذوي القربى، وظلم ذوي القربى كما يقول الشاعر الجاهلي طرفة بن العبد أشد مرارة ووقعا وحدّة من الحسام المهنّد. مجازر بالجملة يوميا، وبين القبر والقبر يُبنى قبر جديد. هذا الوضع الذي ورثه الرئيس بوتفليقة لما تسلّم الحكم. المعطيات الخمسة قبل جرد إنجازات الرئيس قام الرئيس بوتفليقة بمسح شامل للوضع السياسي والاجتماعي والتنموي في مختلف قطاعاته. لقد تمكن بمبضع الجراح الماهر والسياسي الذكي والدبلوماسي المحنّك، من رسم خريطة للتغيير الهادئ غير المتسرع. خريطة تضع الأمن على رأس الأولويات. وإصلاح ذات البين ثانيا (المصالحة الوطنية). وتوفير المتطلبات المستعجلة للمعيشة والسكينة الاجتماعية، وفي مقدمتها: العمل والسكن والدواء. قدّم وزير السكن رقما مبهرا الأسبوع الماضي. ذكر بأن ما تم إنجازه منذ مجيء بوتفليقة قارب ثلاثة ملايين ونصف مليون سكن (بمختلف الصيغ). وقال وزير العمل بأن نسبة البطالة انخفضت من أكثر من 30 في المائة قبل 1999 إلى ما دون 10 في المائة هذه السنة (2016). لسنا بحاجة ربما إلى تعداد كل إنجازات الرئيس بوتفليقة؛ فهي مرئية «واضحة» شاهدة، تؤكد أن واقع الجزائريين تغيّر، وتغير جذريا. قد لا يراها إلا من كان في قلوبهم مرض، أولئك الجاحدون الذين يمكرون لحسابات أخرى، وذلك شأنهم. بالتأكيد أن مجهود التنمية مازال يتطلب جهدا ومرافقة أكبر لتطويره ودعمه. ولا أحد قال بأن ما تحقق خال من النقائص أو حتى القول إنه كان بالإمكان فعل وإنجاز أكثر وأفضل بميزانية قاربت 800 مليار دولار. قد يكون مشروعا مثل هذا التصريح أو التمني. لكن الأحكام تُفهم بمستنداتها، و لا يجب أن تكون مجردة ومفصولة عن معطياتها. أول المعطيات: الكثير من السياسيين والمتحزبين وحتى المحللين ينسون أو يتناسون مخلفات الجمر في جانبها المادي والمالي. كل شيء كان مخربا مدمرا يستوجب إعادة بنائه. يضاف إلى ذلك ما نجم من مبالغ مالية كبيرة في تجسيد التعويضات المجسدة لميثاق السلم والمصالحة، وهو ما فاق في حدود معلوماتي، 25 مليار دولار. لماذا عين الدفلى والشلف ومعسكر وتيارت وباتنة وجيجل...؟ لما جاء الرئيس بوتفليقة قام بجرد «ذكي» للمناطق التي استوطن فيها الإرهاب من ربوع الوطن، بل نقول تدقيقا، جرد المناطق التي استغل الإرهاب تخلّفها التنموي وفقرها وبؤسها ليحوّلها إلى «منابع» يجنّد أبناءها وعائلاتها بوعود تخرجهم من الفقر إلى عيش رغيد، وهي المناطق التي شهدت أبشع الجرائم والمجازر بعد ذلك. لما تأكد المغرر بهم أنهم أخطأوا سواء السبيل وساروا في طريق الانحراف الكبير بالخروج ضد شعبهم وأمتهم بل وضد دينهم وعائلاتهم. صحيح أن كل الوطن والجزائريين تضرروا من المأساة الوطنية وظلم من خرجوا عن شعبهم بتنفيذ مخططات، كثير من منفذيها كانوا هم بدورهم ضحايا ضبطت من مخابر في عواصم التواطؤ والفكر الانغلاقي. لقد كانت عين الدفلى والشلف والمدية وسيدي بلعباس وتيارت ومعسكر وغليزان وسعيدة والبويرة وجيجل وسكيكدة وأم البواقي (تحديدا قرعة سعيدة وعين كرشة وهنشير تومغني وبولهيلات) وباتنة (تحديدا وادي الماء ومروانة ورأس العيون ولارباع) وسطيف (تحديدا بوطالب وصالح باي وايسلي وسرج الغول والبابور...)، مناطق صنّفتها الجماعات المسلحة مناطق محرمة، ارتُكبت فيها أبشع المجازر والانتهاكات. لقد كانت مناطق مخربة 100 في المائة؛ هُجّر سكانها، وأحرقت أكواخهم، واستُبيحت نساؤهم وبناتهم، وذُبح أطفالهم وشيوخهم، وسُرقت ممتلكاتهم... لذلك لما جاء الرئيس بوتفليقة أدرج هذه الولايات في مقدمة زياراته، وعلى رأس برامجه التنموية لاحقا. كان الرئيس يدرك أن حملاته الانتخابية إذا لم تقترن بإنجازات ملموسة لن يتغير وضع سكان هذه المناطق. ومن ثمة سيظلون «منابع» يستغلها أولئك الذين لا نريد استعادة ذكرهم ووصفهم. استراتيجية الرئيس مكنت ولاية تيارت من فتح 23 ألف منصب شغل منذ 1999، وبلوغ نسبة 90 في المائة في مجال التغطية الكهربائية الريفية لتثبيت سكان الأرياف. وتغطية بالغاز بلغت 87 في المائة، وإنجاز 48 ألف وحدة سكنية، ورفع عدد أسرّة المستشفيات إلى 1200 سرير، وتوسيع المساحات الفلاحية والرعوية إلى ما يقارب 20 ألف هكتار. كما تحولت تيارت إلى قطب صناعي ضخم. بالمختصر المفيد، لقد خرجت الولاية وبلدياتها من شرنقة ما كانت تستغله الجماعات الضالة في تجنيد أتباعها. الاستثمار في البويرة فاق 3000 مليار دينار. يكفي أن نشير إلى أن عدد المؤسسات الصغيرة والمتوسطة بلغ 16694 مؤسسة في الخدمات والصناعة والفلاحة والبناء والأشغال... مع إنجاز 165232 سكنا. في جيجل يشكل مركّب بلارة للحديد والصلب الجاري إنجازه، أبرز منطلق لتغيير المنطقة اجتماعيا واقتصاديا. مشروع سيوظف الآلاف في مناصب مباشرة وغير مباشرة، يضاف إلى عشرات المشاريع الأخرى التي دخلت الخدمة من مصانع وفنادق وخدمات غيّرت حياة المواطن الجيجلي معيشيا. التنمية في عين الدفلى والشلف ومعسكر وسيدي بلعباس وسعيدة والمدية والبرج وسطيف وأم البواقي وباتنة، تحركت بوتيرة غير مسبوقة؛ لقد تحولت هذه الولايات إلى أقطاب صناعية وتنموية كبرى. إن مصانع السيارات في غليزانوتيارت ووهران والمدية وباتنة تم ضبطها، كما سلف الذكر، على أساس استراتيجية مدروسة، أسهمت فيها كل مؤسسات الدولة بأمر وإشراف شخصي من الرئيس بوتفليقة، وليس كما يروّج البعض من خلال زرع الفتنة أو إثارة نعرة تنم عن جهل مبين ومرض مازال يسكن الذين يحاولون تأويل كل ما من شأنه أن يعطيهم متنفسا يحقق لهم مكاسب ولو بإدخال البلاد مجددا في دوامة الفوضى. ثاني المعطيات: إن مسح المديونية وتبعاتها من خدمات الديون والرسوم لم يكن أمرا هيّنا، بل كانت فاتورة ثقيلة مكلفة. يكفي التذكير بأنها تجاوزت 33 مليار دولار. ثالث المعطيات: إن ميزانيات التجهيز في مختلف القطاعات (الوزارات) في العهدتين الأوليين للرئيس بوتفليقة، شكلت الثقل الرئيسي للمبالغ التي صُرفت. عندما نتحدث عن 13 سدا كبيرا وتحديدا بن هارون (مليار متر مكعب) وطريق سيار (أكثر من 1200 كلم بجسوره وأنفاقه) وعن شبكات السكك الحديدية والترامواي والميترو والمطارات وإعادة بعث الحجار، وبناء الجامعات وثلاثة ملايين سكن وبناء أكثر من 20 مخزنا للحبوب والقضاء على مدن بأسرها (وليس مجرد أكواخ وبيوت قصدير) وما يرافق ذلك في عمليات الإسكان والترحيل؛ من بناء مدارس ومتوسطات وثانويات وجامعات ومستشفيات، إنهم لا يتحدثون عن ميزانيات رفع الأجور التي تضاعف بعضها إلى أكثر من 700 في المائة، وعن المسح المتكرر لميزانيات المؤسسات التي أفلست بدافع الحفاظ على مناصب العمل... الخ، كل هذه الإنجازات ليست أمرا هيّنا أو غير مكلف. رابع المعطيات: أن ما سبقت الإشارة إليه يدرَج في خانة الأولويات المستعجلة. وكل أمر مستعجل بالتأكيد تشوبه العيوب والنقائص الناجمة أحيانا عن التسرع ونقص الخبرة، ومن ثمة يطوله الانتقاد، فيستلزم المراجعة والتصويب والتدقيق، وهذا يؤدي في نهاية المطاف إلى تراكم الخبرة وتجذير التكوين الميداني بالممارسة. المؤكد أيضا أن بعض هذه النقائص نجمت عن ممارسات خاطئة لها مجال تصويبها أو معاقبتها من سوء تسيير أو فساد متعمد؛ كالتلاعب بالصفقات أو السرقات والتحايل. لكن لا يجب أن نعمم الأحكام وشبهة الفساد، أو «نسوّد» كل ما هو جميل ومفيد من إنجازات، شملت كل القطاعات ومست كل الولايات والبلديات. خامس المعطيات: الجزائريون ينسون في تحاليلهم وعند «تشنجهم» في إصدار أحكامهم التي في كثير منها متسرعة وغير موضوعية، ينسون ما يتمتعون به من مجانية التعليم والعلاج، بل ومجانية السكن والنقل والحليب والخبز... مجانية لا توجد إلا في الجزائر. لقد أدت سياسة الدعم الاجتماعي الشامل لمختلف المواد واسعة الاستهلاك: الخبز والحليب والدواء والسكر على سبيل المثال، والتي تكاد تعطي للدولة الجزائرية صفة «الدولة المانحة للأرزاق» أو الدولة التي تزرع «الاتكالية ولا تحث على العمل»، أقول إن السياسة الاجتماعية الحالية التي تتكفل بالجميع على حد سواء؛ الفقراء منهم والأثرياء، هي التي أدت إلى رمي 160 مليون خبزة سنويا في المزابل، وإلى أكثر من 30 مليون طن من فضلات الأكل واللحوم والخضر والفواكه... وهي سبب الخسائر التي تخلفها ألعاب الموت (المحارق) في احتفالات المولد النبوي وفي الملاعب وفي الأعراس، والتي تفوق سنويا 330 مليار سنتيم. هي نفس السياسة الاجتماعية التي تقوم على الدعم المطلق، التي جعلت كل جزائري يملك 3 شفرات نقال. وفي كل بيت 3 شاشات تلفزيونية و3 ثلاجات و3 سيارات و3 عمرات في العام وحج كل عام... ما نقول ليس حسدا أو بخلا ولكن نريد الإجابة عن أولئك الذين يطرحون أسئلة المكر والجحود، فدعوناهم إلى أن ينظروا إلى هذه التكاليف ليدركوا أين ذهبت الأموال التي يطرحون أسئلة المغالطة حول مصيرها. أخيرا دخلوا في المقاربة الجزائرية أفواجا لم يستوعب العالم حجم معاناة الجزائريين ومخاطر أخطبوط الإرهاب إلا بعد أن دمرت فلوله ناطحات السحاب في نيويورك، وخدشت طائرات مختطفة كبرياء البنتاغون في هجومات سبتمبر 2001 التي هزت العالم بأسره في فزع عظيم، مخلفة ضحايا بالآلاف. كانت تلك الهجومات الأعنف من نوعها بداية التحول الكبير في بداية إدراك ظاهرة الإرهاب. وفي وصول صراخ الجزائر إلى الآذان والعواصم التي كانت تتسلى ب «اللحم» الجزائري الذي يباد ويُذبح يوميا على مرأى الجميع بالتخطيط والتمويل والإشهار والإيواء، بل للأسف تساوى في ذلك الشقيق والصديق والجار والبعيد. لا أحد كان يعتقد بأن النار إذا لم تجد ما تأكله أكلت نفسها. عواصم بمخابرها ومخططاتها ومخابراتها وأذنابها تواطأت في السر والعلن لمزيد من الحرائق في الجزائر، كانوا يعتقدون أنهم بمنأى عن امتداداته. توزعت عصابات القتل والإجرام في ربوع العالم. لم تنج حتى الدول التي كانت تعتقد أنها محصنة وقوية لا تزعزع. من «الجيا» و«الميا» إلى القاعدة وبوكو حرام وشباب الصومال إلى «داعش»... من مدريد وباريس ولندن وبرلين وموسكو... إلى كل بلدان العالم التي تسربت إليها جماعات الموت والذئاب المنفردة. لقد رافعت الجزائر طويلا من مختلف المنابر وعلى لسان رئيسها على الخصوص، بتقديم مقاربة شاملة وتصور أمثل لإيجاد أفضل الوسائل لمكافحة الإرهاب. مقاربة تبدأ أولا بالاتفاق على المفهوم، ثم جرد منابعه ومسبباته. في هذا المجال تؤكد الجزائر أن تنمية مستدامة مرافقة للدول الفقيرة والنامية بإمكانها أن تكون بديلا للتفاوت بين الشعوب، وتسهم في توزيع أكثر عدلا للحقوق أولا وللثروات. ولن يتحقق ذلك إلا بتكريس حقوق الشعوب في التحرر والتخلص من هيمنة قوى الاستبداد والقهر، وتكريس سلطة مجلس الأمن والأممالمتحدة بالعدل والمساواة على كافة الشعوب والأمم. إن زعزعة الأنظمة وثقافة الانقلابات والتدخل العسكري وتوسع الأطماع بالدهس على المستضعفين، كلها تدرَج أيضا في منابع التطرف ونمو الإرهاب وانتشاره؛ فهي أسباب تعطي المبررات للإرهابيين. لقد ظلت الجزائر تجابه الإرهاب بمفردها لأكثر من 10 سنوات قبل أن يدرك العالم بأسره حجم مأساتها؛ فهل ننتظر 10 سنوات أخرى ليدرك هؤلاء أن القضاء على الإرهاب يتطلب أيضا اجتثاث منابعه والقضاء على أسبابه؟ إذا كانوا صادقين فلهم في تجربة الجزائر خير مرجع. ما سبق ينطبق أيضا على تأخرهم في فهم، بل في إدراك المقاربة الجزائرية في الملفات السورية والليبية واليمنية والعراقية والفلسطينية والمالية والصحراوية... أخيرا دخلوا في المقاربة الجزائرية أفواجا، وأدركوا جميعا أن الحلول التي تتبناها الجزائر تكرّس سلطة الأممالمتحدة، ومجردة من كل الحسابات أو الأطماع التي تحرك بعض الذين «يعرضون» حلولهم على قارعة الطريق وفي جيوبهم أوراق وملفات الابتزاز.