يتوقف العالم اليوم للحظات يستعيد فيها مشاهد الدمار والخراب التي صنعتها تفجيرات 11 سبتمبر 2001 بنيويورك، ويستعيد فهمه لحقيقة آفة دنيئة اسمها "الإرهاب".. آفة كانت الجزائر سبّاقة إلى التحذير منها ومن آثارها وعواقبها، وظلّت تدعو من مختلف المنابر والمواقع إلى تكاثف الجهود الدولية لمحاربتها. غير أن تقمّص الدول الكبرى لدور الأصم وتجاهلها لصراخ الجزائر جعل الجزائر تواجه أخطر ظاهرة "كونية" لوحدها وبمعزل عن أي تعاون أو تضامن دولي حقيقي، ما أخر تحرك العالم في اتجاه كسر شوكة هذه الآفة التي أدرك الجميع اليوم مدى خطورتها وتعقّدها، معترفين بريادة تجربة الجزائر في مكافحتها ونجاح مقاربتها التي تجمع بين الجهد الأمني وسياسة التصالح والإصلاح السياسي لمحاربة العوامل المؤدية للتطرّف والمغذّية للظاهرة، أو ما اصطلح عليه الرئيس بوتفليقة بتجفيف منابع الإرهاب. وهي سياسة اعتمدها في تجاوز لما كان منتهجا ومعروفا ب"الكل الأمني". يصادف إحياء العالم لأحداث 11 سبتمبر 2001، اجتماع خبراء سياسيين وأمنيين في ورشة دولية احتضنتها الجزائر حول "دور الديمقراطية في مواجهة ومكافحة التطرّف العنيف والإرهاب"، اجتماع اختتمت أشغاله بإعلان إشادة دولية بجهود الجزائر في مكافحة الإرهاب وحرصها الكبير على تقاسم تجربتها في هذا المجال. الورشة التي ضمّت خبراء وممثلين عن المنتدى العالمي لمكافحة الإرهاب، وأعضاء مجلس الأمن الدولي وبلدان الساحل والأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي وجامعة الدول العربية، حملت أيضا اعترافا دوليا صريحا بنجاح التجربة الجزائرية في مواجهة آفة الإرهاب، ولم يتوان خلالها مساعد كاتب الدولة الأمريكي للديمقراطية وحقوق الإنسان، في إعلان رغبة الولاياتالمتحدةالأمريكية ومعها مختلف الهيئات الدولية المعنية بمحاربة الظاهرة في التعلّم من تجربة الجزائر، والاستفادة من مقاربتها الشاملة في القضاء على هذه الآفة، مبرزا الدور المحوري والريادي والبنّاء الذي تحتلّه الجزائر في منطقة الساحل الإفريقي، والذي يجعل منها شريكا استراتيجيا في إطار الجهود الدولية لمحاربة الظاهرة. موقف المسؤول الأمريكي عزّزته دراسة صادرة قبل أسبوع للمعهد الأمريكي للأبحاث في السياسة الخارجية، الذي لم يتوان بدوره في مطالبة واشنطن بضرورة مراجعة إيجابية لعلاقاتها مع الجزائر، مثمّنا من جهة دورها البنّاء في الحفاظ على الاستقرار والسلم بمنطقتي شمال إفريقيا والساحل، ومن جهة أخرى ثبات الجزائر على مبادئ سياستها الخارجية الرافضة للهيمنة وللتدخل في شؤون الدول والمستمدة من ثورتها التحريرية المجيدة. جهر القوة الكبرى في العالم بصواب المقاربة الجزائرية وريادة دورها في مكافحة الإرهاب، كان مسبوقا باعتراف دول القارة الأوروبية بجدية المقاربة التي اعتمدتها الجزائر في القضاء على أخطر آفة وتحد يواجه العالم اليوم، وبصدق مواقفها حول التراخي الذي اتسم به تعامل المجموعة الدولية مع هذه الآفة العابرة للحدود والأوطان في سنوات التسعينيات. وبعدها في ضبط طرق وأساليب محاربة هذه الظاهرة التي تطلب تحديد مفهومها بدقّة جهودا دبلوماسية حثيثة لم تدّخرها الجزائر، امتدادا لمساعيها والتزامها الدائم بدعم جهود السلم والأمن في العالم. من الإدراك لتحذيرات الجزائر إلى الاقتناع بمقاربتها الشاملة أيقظت التفجيرات التي هزّت "الكرامة والكبرياء الأمريكي" واستهدفت المبنى الرمز للهيمنة الاقتصادية الأمريكية في 11 سبتمبر 2001، ضمائر شعوب العالم وقادتها، وساهمت في فهمهم لمعنى وحقيقة ظاهرة الإرهاب التي عانت الجزائر من ويلاتها لعقد كامل من الزمن، ووصلت صيحات الأرامل والأيتام التي خلّفتها هذه الآفة بالجزائر أخيرا إلى الآذان.. وبرغم اختلاف الأرقام وحصائل الضحايا وحجم الخسائر المادية التي تركتها هذه الآفة الزاحفة التي كلّفت الجزائريين أزيد من 200 ألف قتيل وما يقارب 30 مليار دولار من الخسائر إضافة إلى الخسائر غير المباشرة، إلا أن اعتراف العالم بخطورة هذه الظاهرة وإقراره بضرورة تبنّي مبدأ التعاون الدولي لمكافحتها، ساهم في إخراج الجزائر تدريجيا من عزلتها ورفع يد الظلم التي أسقطتها الدول العظمى عليها، سواء باتهاماتها الجارحة المدرجة في خانة حماية حقوق الانسان أو الامتناع عن تزويدها بالعتاد الحربي المواتي لمكافحة الجماعات الإرهابية، أو بإيوائها لعرّافي الآفة والرؤوس المدبرة لجرائم القتل والتنكيل والسبي بالجزائر، أو من خلال تمويل مباشر وغير مباشر من عواصم التواطؤ ودوائر مخططات الفتن، أو حتى بإثارة الشكوك حول ما كان يحدث في بلادنا من عدوان معلن على الشعب الجزائري برمته من خلال "من يقتل من؟!" تشويها ومغالطة وابتزازا. بعد 11 سبتمبر 2001، خاضت الجزائر التي سجلت التزامها التام بدعم الجهود الدولية لمكافحة الإرهاب، معركة دبلوماسية طويلة من أجل إقناع المجموعة الدولية بضرورة ضبط مفهوم دقيق لآفة الإرهاب التي لا توقفها الحدود ولا تنتسب لأي دين أو ثقافة أو جنسية أو طائفة، محذّرة من مغبّة نسب هذه الظاهرة إلى الإسلام الذي يعتبر دين السماحة والتصالح.. كما بذلت الجزائر جهودا حثيثة لإقناع العالم بضرورة تجريم الأفعال التي يتغذّى منها الإرهاب الأعمى بداية من تجريم دفع الفدية للتنظيمات الإرهابية، وصولا إلى ضرورة مكافحة الجريمة المنظمة بمختلف أشكالها، ومحاربة مظاهر الفقر والتمييز والعنصرية التي تنمّي الشعور بالحقد والكراهية في نفوس البشر وتغذّي الفكر التطرفي الذي تستفيد منه التنظيمات الإرهابية. في المقابل ظلّت الجزائر وضمن مقاربتها الشاملة لدعم السلم والأمن ومكافحة التطرّف والإرهاب، تنادي بضرورة ترجيح الحلول السياسية السلمية على المخططات الأمنية والتدخل الأجنبي في مواقع النزاعات، إدراكا منها بأن هذه التدخلات لا تزيد سوى في تعقيد الأزمات وتأجيجها، ورافقت مساعيها ودورهها الريادي في الوساطة الدولية، بدفاعها المستميت عن حقوق الشعوب والدول الفقيرة ولا سيما الدول الإفريقية في التنمية والعيش الكريم. الجزائر التي لم تتأخر عن إعلانها دعم مساعي التسوية السلمية بالدول الصديقة والشقيقة التي عانت وتعاني حالات انفلات أمني وأزمات سياسية حادة، على غرار تونس ومصر وليبيا ومالي وسوريا، أعربت مرارا عن استعدادها لتقاسم تجربتها الرائدة في مكافحة الإرهاب واستعادة السلم والأمان عن طريق سياسة المصالحة الوطنية التي أقرها الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، وأضحت اليوم مثالا تتطلع الكثير من البلدان للاستفادة منها وتدرّس في عدة معاهد ومراكز متخصصة في دراسة الآفة، بعد أن حظيت هذه التجربة بإشادة دولية واسعة. التجربة الجزائرية التي نجحت بفضلها الجزائر في الخروج من ظلمات الإرهاب الأعمى، وأبانت في فحواها عن فضائل الدين الإسلامي في مجال التصالح والتسامح، أبرزت أهمية الخطوات التي عزّزت مسار المصالحة الوطنية، والتي شملت الإصلاحات العميقة التي توّجت بإعادة صياغة دستور يضمن ممارسة ديمقراطية أكبر، ويكرس الحريات الفردية والجماعية ويكفل حماية حقوق الإنسان وحرية الرأي والتعبير. هذا المكسب الأخير الذي ذكر مساعد كاتب الدولة الأمريكي المكلف بالديمقراطية وحقوق الإنسان، أول أمس، فقط بشأنه أن "الصحافة الجزائرية قوية وتتمتع بحرية أكبر مقارنة بدول الجوار..". هذه الخطوات التي باركها الشعب الجزائري، أدرك العالم اليوم بأنها تشكّل بالفعل المناعة التي حصنت الجزائر من عواصف ما اصطلح على تسميته "بالربيع العربي"، الذي هز أركان الكثير من الدول العربية، فيما بقيت الجزائر منيعة تتطلع إلى تقوية استقرارها ودعم رقيّها. الدول الأوروبية تأخرت في إدراك الظاهرة تحل الذكرى ال15 لتفجيرات 11 سبتمبر 2001، اليوم على العالم بأسره لتجد مرارة الواقع الذي تصنعه آفة الإرهاب في أشدها. فالظاهرة التي كانت في التسعينيات محدودة في أقطار وتتغافل عنها أقطار أخرى، اتسع بعدها الجغرافي اليوم، واستغلت التطور التكنولوجي لتصيب أكبر عدد من الدول والمناطق.. ليس نكاية في دول أوروبا اليوم القول إنها بعد أن كانت تحمي عناصر جماعات ومجموعات إرهابية في ديارها، أصبحت اليوم في دائرة التنظيمات الإرهابية الدولية وأضحت أكبر المتضررين وأكثر الدول استهدافا من قبل هذه التنظيمات. دول كفرنسا وبلجيكا وألمانيا وبريطانيا التي اختارت إيواء قيادات الجماعة الإسلامية المسلّحة "جيا" في التسعينيات، ورفضت طلبات الجزائر بتسليمها، تجد نفسها اليوم تجني أشواك خيارها هذا، بمواجهة مخططات "شيطانية" يتم رسمها من قبل رؤس أخطر تنظيم إرهابي دولي لها "داعش" وتنفذ بأيادي عناصر الخلايا المقيمة عندها، بل وتحمل جنسياتها. قد لا يكون من الصدف تزامن اقتراب ذكرى 11 سبتمبر 2001 التي عرّفت العالم بالتنظيم الإرهابي "القاعدة"، مع إعلان فرنسا قبل أيام قليلة عن إفلات أحد العناصر التي كانت تنتمي للجماعة الإسلامية المسلّحة من الرقابة القضائية (مروان بن أحمد)، غير أن هذه الواقعة، وكذا ظاهرة التجنيد الواسعة التي أبانت قدرة تنظيم "داعش" على استقطاب الشباب من العالم الغربي (أوروبا وأمريكا وأستراليا)، وتأكيد التقارير الأمنية الدولية بأن عدد المجنّدين في صفوف هذا التنظيم الإرهابي الخطير بلغ نحو 22 ألف مجنّد من مختلف دول العالم، تؤكد مرة أخرى صدق الطرح الجزائري حول هذه الآفة، وضرورة توحيد مفهوم الإرهاب لمحاربته بشكل أنجع وفعّال.