حذّر الرئيس عبد العزيز بوتفليقة القاضي الأول في البلاد أمس السلطات التي لا تنفذ قرارات العدالة، داعيا إياها إلى الانضباط مع الدولة والمجتمع والعمل على تحقيق وتجسيد مبدأ سيادة القانون فوق الجميع مجددا من جانب آخر تشبث الدولة بخيار المصالحة الوطنية، وتمسكها بعهدها في الصفح عمن ضلت بهم السبيل، من خلال ميثاق السلم والمصالحة الوطنية الذي يعتبر "ميثاقا غليظا". فخلال استعراضه لجملة المنجزات التي حققتها العدالة الجزائرية بفضل برنامج الإصلاح، بمناسبة افتتاحه للسنة القضائية 2008 - 2009 بالمحكمة العليا بالعاصمة، توقف رئيس الجمهورية عند مشكل التباطؤ في تنفيذ بعض الأحكام والقرارات التي تصدر عن القضاة، قائلا في هذا الصدد أن "هناك قرارات من العدالة لا أرى أن الإدارة سريعة في تطبيقها" وفيما أشار إلى أن سلك القضاء سيتابع مستقبلا السلطات التي لا تنفذ قرارات العدالة، ذكر الرئيس بأن مستخدمي الإدارة " في خدمة مصالح الدولة والمجتمع" وأنه لا بدّ لهم أن يكونوا منضبطين مع الدولة والمجتمع، "أما إن كانوا في وضع المتربصين أو السواح، فلكم دينكم ولي ديني"، مؤكدا بأن هؤلاء مدعوون إلى تحقيق وتجسيد مبدأ سيادة القانون أو الاستقالة إذا لم يوافقوا على ذلك. من جانب آخر جدد السيد عبد العزيز بوتفليقة تمسك الدولة بخيار المصالحة الوطنية، وقال في هذا السياق أن "ميثاق المصالحة الوطنية، عهد الدولة وميثاق غليظ "سأتشبث به مهما كلفني ذلك من ثمن"، وفيما أشار إلى أن هناك من لا يوافق عليه، "ومن يتألم لأننا كنا رفقاء بمن ضلت بهم السبيل" ذكر بأن السلطات العليا في الدولة كانت دوما رفيقة "بالذين ضلت بهم السبيل بالقلم والكلمة واغتالوا يوميا بالكلمة السيئة"، مؤكدا بالتالي ضرورة "الرفق والعدالة والقسطاس بهؤلاء وبأولئك" والعمل على ترجمة المصالحة والحس الوطني وعدم إقصاء أو إبعاد أحد، "أما من ضلت بهم السبيل فالله هو الهادي". على حد تعبير رئيس الجمهورية الذي تطرق بعد ذلك إلى جانب إصلاح السجون والمؤسسات العقابية، معتبرا بأن المجتمع لا يتجزأ فيه الصالح والطالح، ولذلك من الضروري فتح المجال للمساجين وإعطائهم فرصة أخرى في الحياة. وأوضح الرئيس في هذا الصدد أن الاحتباس لا ينبغي أن ننظر إليه كعقاب وإنما كتربية، مشيرا على أن هذا المبدأ هو الهدف الأساسي المتوخى من برنامج إصلاح السجون، "والذي سيكون فعليا، بعدما ننتهي من برنامج بناء المؤسسات العقابية الذي هو في طور الإنجاز". وفيما أعتبر أن المجتمع الجزائري المتماسك قد يعرف بعض المشاكل والانحرافات التي لا بد أن تعالجها الدولة بمسؤولية على اعتبار أنها "أب الجميع" أوضح الرئيس بأنه لا يدعو القضاء لأن يكون رؤوفا رحيما، وعكس ذلك "لا بد له أن يكون قاسيا كل القسوة طبقا للقانون، ولكن لا بد من تحسين ظروف إقامة المحتبسين حتى يرجعوا إلى المجتمع دون الإخلال بسلامته واستقراره". كما ذكر في سياق متصل إلى أن الإنسان العادي الذي يعيش حياة طبيعية ليس له الحاجة القصوى لحقوق الإنسان، على اعتبار أنه يتمتع بها، وإنما هذه الحقوق يحتاجها أكثر المنكوب والمحبوس والمتضرر، معربا عن أمله في أن تصبح الجزائر "مثالا" في مجال تطبيق حقوق الإنسان في وسط المؤسسات العقابية. وفي هذا الإطار دعا الرئيس إلى بذل المزيد من الجهود لترقية حقوق الإنسان في الجزائر مشيرا بشكل خاص إلى ضرورة استدراك عدد أكبر من المحتبسين للاندماج بشكل أفضل في المجتمع. على صعيد آخر أكد القاضي الأول في البلاد أن إصلاح العدالة، لا يعد برنامجا مؤقتا ولا قيمة ظرفية وإنما هو تعبئة دائمة ومستمرة لجميع الإمكانات والقدرات وحشد متواصل لكافة العناصر الفاعلة في ترسيخ وتجسيد مبادئ عدالة حقيقية يؤمن بها المواطن ويحترمها، نظير ما يلمسه في القائمين عليها من استقامة في السلوك والمعاملة ومراعاة للعدل والإنصاف، مشيرا إلى أن ما يبعث إلى الارتياح في افتتاح السنة القضائية الجديدة الذي يتزامن مع حلول أجل انتهاء إحدى أهم مراحل الإصلاح هو الانخراط القوي للأسرة القضائية والتعاون الإيجابي من عدد كبير من الفاعلين والهيئات والمؤسسات الوطنية في هذا المسعى السديد نحو تعزيز السلطة القضائية. وبالنظر لكون العدالة مطلب دائم والحاجة إليها ثابتة مستمرة، أكد رئيس الجمهورية التزام الدولة بمواصلة العمل بإرادة وعزم لضمان توفيرها دوما بالجودة والنوعية المطابقة للمعايير العلمية والمحافظة على صفائها ونقاوتها من كل تلوث، بنفس الجهد الذي تم به بداية برنامج إصلاح العدالة الذي جدد التأكيد على أنه مجرد وسيلة وأداة يراد من خلالها البلوغ بالعدالة الجزائرية، درجة من الحداثة والكمال، لتصبح هي ذاتها عدالة إصلاح شامل لكل القطاعات وللحياة العامة. وسجل السيد بوتفليقة أن ما تحقق بفضل تطبيق برنامج الإصلاح من أعمال ومنجزات لحد الآن مع ما ينتظر أن يتحقق من نتائج إضافية تتوج بها المشاريع التي انطلقت بها الأشغال أو هي في طور الإنجاز، كفيل بتأهيل العدالة للاضطلاع بدورها الإصلاحي في مسار بناء الوطن وتنميته، مشيرا في سياق متصل إلى تباشير دخول إصلاح العدالة في مرحلة عدالة التقويم والحداثة وقطعه أشواطا بعيدة ومعتبرة في التأسيس لدولة القانون والمؤسسات، استعادة السلطة القضائية موقعها الطبيعي، حيث صار دورها بارزا في دفع عجلة التقدم ومسايرة تطور المجتمع، "وذلك بتوفيرها للآليات والوسائل والطرق القانونية لضبط وتأطير الحياة العامة وضمان ممارسة الحريات والحقوق الأساسية وفقا لمبادئ حقوق الإنسان والقيم الإنسانية المشتركة ". كما أشار القاضي الأول في البلاد إلى أن مفهوم السلطة القضائية أصبح مجسدا في القانون الأساسي للقضاء والقانون المتضمن تنظيم وتشكيل وسير المجلس الأعلى للقضاء، حيث عزز القانونان حماية القاضي من كل أنواع المؤثرات وأشكال الضغط، وضمنا له ظروفا اجتماعية مهنية تليق بمكانته، مذكرا في نفس الصدد بتضاعف تعداد القضاة، المقرر أن يصل نهاية السنة الجارية إلى ما يقارب نصف تعدادهم في سنة 2004، وكذا ارتفاع عدد مساعدي وأعوان القضاء في مختلف الوظائف والأسلاك القضائية. من جانب آخر دعا الرئيس المسؤولين والمشرفين على المؤسسات العقابية إلى مواصلة جهودهم لجعل هذه المؤسسات أماكن تسودها المنافسة في تحصيل العلم والمعرفة وكسب الحرف والمهارات، مع تخصيص فضاءات وهياكل ملائمة للتعليم والتمهين ولممارسة النشاطات الثقافية والرياضية والترفيهية، كما ناشدهم إيلاء العناية الخاصة لمواصلة جهود تنصيب المصالح الخارجية لإعادة الإدماج الاجتماعي للمحبوسين، لمساعدتهم في الحصول على العمل والابتعاد عن السلوك الإجرامي نهائيا، معتبرا في نفس السياق أن السلطة القضائية لا يمكنها العمل بمفردها، دون تشجيع ودعم انخراط المجتمع المدني والقطاعات الأخرى، في مسعى الإصلاح، وذلك لتشجيع البقاء على التعبئة التامة في نشر وإشاعة ثقافة حقوق الإنسان ومواجهة الانحرافات والخروقات بمختلف أشكالها. وبعد أن تطرق إلى كل المكاسب التي تعززت بها هياكل القضاء وكذا إثراء برامج التكوين وتحسين مستوى التأطير في مختلف التخصصات أشاد الرئيس بوتفليقة بتعاون الدول الصديقة التي تعاونت مع الجزائر، لا سيما في الجوانب المتعلقة بالتكوين والتكوين التخصصي للقضاة ومستخدمي العدالة بصفة عامة، داعيا بالمناسبة إلى ترشيد هذا التعاون وتوسيعه إلى أبعد الحدود في مجالات التنمية الحقيقية المستدامة، من أجل استكمال استتباب الأمن والسلم الدائمين للشعوب والأوطان. وخلص الرئيس إلى أن ما تم تحقيقه خلال هذه المرحلة من إصلاح العدالة، من تعزيز السلطة القضائية وإعادة مكانة القاضي واعتباره، يجعل العدّة التشريعية الوطنية في توافق مع المبادئ والقيم الوطنية، وتتناغم مع القواعد والأسس المشتركة في الوسط الدولي. للإشارة فقد أشرف رئيس الجمهورية عقب إعلانه الرسمي عن افتتاح السنة القضائية الجديدة على حفل تخرج الدفعة ال16 للطلبة القضاة، المشكَّلة من 269 قاض من بينهم 138 قاضية و3 قضاة من الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية. وسلم الرئيس بالمناسبة هدايا شرفية للطلبة العشر الأوائل في الدفعة التي حملت اسم المجاهد المرحوم "محمد قاسو"، والتي أهدت من جهتها هدية رمزية للرئيس عرفاناً له على الجهود التي يبذلها من أجل تطوير وعصرنة القطاع. كما كرم رئيس الجمهورية أيضا أرملة الفقيد قاسو الذي ناضل في صفوف جيش التحرير الوطني إبان الثورة، وتقلد منصب قاضي في سنة 1972.