تعود الذكرى الثانية لرحيل سيد الشاشة الفضية عمار العسكري، الذي سحق بالصورة أباطيل الدعاية الاستعمارية ووثّق للتاريخ بتفوق كامل، محققا السبق في عالم لا يرحم الضعفاء، وتبنى الصورة الأصيلة التي لا تحتاج لمساحيق، وقاد دورية السينما الجزائرية نحو مسار زاخر بالأعمال السينمائية التي توّجته بلقب الفارس المدافع عن الذاكرة الثورية، وبفضله تعلّق الجزائريون بسينما الثورة. العسكري ترك آثارا مجّدت الثورة وبطولات جيش التحرير من أجل الحرية والكرامة، وستبقى شاهدا للأجيال، ورغم تقدّم سنه ومصارعته للمرض، ظل ينتفض كلما أثير اسم "الجزائر" ليدافع عن ثقلها وشرفها، فهي الغالية التي سقط تحت قدميها الجبابرة، ولا تزال لقطات من رائعته "دورية نحو الشرق" تعرض يوميا بمتحف المجاهد أمام مجسّم "الأسلاك الشائكة"، وتقف أمامها الأجيال لتتعلّم التاريخ من صانعيه. ألبست الجزائر العسكري برنوس العزّ والفخر من خلال تكريمه في العديد من المناسبات، كان آخرها بحي سيدي امحمد بالعاصمة، صفّق له الجزائريون رغم صور القسوة، وكان في كل مرة يعرب عن اعتزازه بالثورة الخالدة التي تربى على يديها، كما الكثيرين من أبناء جيله، لتهدى له باقات الورد وهو الذي عشق زهرة اللوتس التي تسبح فوق ذكريات النضال المشترك ضد أي ظلم سلّط على بني البشر. يتفق الجميع على أن الجزائر امتلكت مخرجا ومجاهدا ومناضلا ملتزما ذو قضية، اتّسم طيلة حياته بالبساطة وحسن المعاملة، أبدع في مجاله وقدم روائعه للسينما الجزائرية، لا تزال حية تكتشف منها الأجيال ماضي الأجداد، ومن فرط حبه لوطنه، مثّل العسكري الجزائر أحسن تمثيل في المحافل السينمائية الدولية. بكى الرجال على رحيل العسكري لأنهم يقدرونه، ويعرفون عن يقين أنّه من خيرة أبناء هذا الوطن المفدى، من ذلك صديقه وزير الشؤون المغاربية والاتحاد الأفريقي والجامعة العربية، السيد عبد القادر مساهل الذي يتحدّث عن الراحل ودموعه في عينيه ووصفه بالرجل المبدع الفنان، الذي استطاع ربط السياسة بالجمال، ويستعيد سنوات الصداقة منذ أن تعرف عليه عندما كان صحفيا في جريدة "الجمهورية"، حيث لمس فيه الوطنية والإيمان بأن الجزائر ولادة للرجال العظماء. كذلك كان الحال مع كل من عرف العسكري، كالمخرج محمد حازورلي الذي يبكي هو الآخر عندما يقف على هذه الذكريات، فالراحل عنده كان نافذة الجزائر السينمائية المطلّة على العالم. وكان رفيقا ورحيما مع أبناء شعبه يحسن التواضع. كما بقي أحد أبطاله الرئيسيين في "دورية نحو الشرق" وهو الفنان الكبير حسان بن زراري متعلّقا ومعجبا بحرفيته، حيث كان يملك طريقة خاصة في إدارة الممثل، ووصل به الأمر إلى إخضاع الممثلين للتدريب مع فرقة من القوات الخاصة الجزائرية، وهو ما ساهم في نجاح الفيلم. كلّ أفلام الراحل العسكري تحمل قضية ما، تؤكّد مواقف الرجل والتزامه بالقضايا الإنسانية العادلة، وأقرب الناس إلى العسكري تشهد له بالعرفان والصدق والنضال، وهي السيدة زوجته التي قالت في إحدى المناسبات بأن زوجها قدم الثورة الجزائرية للجيل الحالي بطريقته الخاصة، وهو من قال بأن "شعبا بدون ثقافة لا يملك حاضرا ولا مستقبلا". مضيفة أن عمار العسكري صاحب مبادئ ورجل ثوري من القدر العالي، التحق بالثورة وسنه لا يتعدى ال 14 سنة، ظل مناضلا طوال حياته في سبيل الثقافة الجزائرية، ورغم مرضه، أصر على البقاء واقفا إلى النهاية ورحل بهدوء مثل الأبطال، ليبقى دائما حيا في الذاكرة الجماعية ومن لا يعرف عمار العسكري حسبها- لا يعرف الجزائر. للتذكير، توفي المخرج عمار العسكري في مثل هذا اليوم سنة 2015 بمستشفى "مصطفى باشا" بالجزائر العاصمة عن عمر ناهز 73 سنة، بعد أن تدهورت صحته وأدخل على إثر ذلك عدة مرات للمستشفى. ولد العسكري عام 1942 بمدينة عين الباردة بعنابة، وهو ينتمي إلى الرعيل الأوّل من المخرجين الجزائريين الذين ميزت أعمالهم السينما الجزائرية بعد الاستقلال، وحصل على شهادة عليا في الإخراج من أكاديمية المسرح والسينما والإذاعة والتلفزيون لبلغراد سنة 1966، وشهادة في دراسات عليا في العلوم الاقتصادية والعلوم السياسية من جامعة الجزائر. ترك المخرج عمار العسكري سجلا هاما من الأعمال المتميّزة، مثل "دورية نحو الشرق" سنة 1974 و«المفيد" (1979) و"أبواب الصمت" (1989)، كان آخر أعماله فيلم "زهرة اللوتس" (1999) وهو فيلم مشترك جزائري فيتنامي، إلى جانب عدة أفلام قصيرة. نال عمار العسكري جوائز عديدة في مهرجانات دولية مثل قرطاج (تونس) وفاسباكو بواغادوغو (بوركينا فاسو). شارك الراحل تحت لواء جبهة التحرير الوطني في إضراب الطلاب الثانويين والتلاميذ الجزائريين في 19 ماي 1956، قبل أن يلتحق بصفوف الجيش الوطني الشعبي بين سنتي 1957- 1962 بالولاية الثانية، جبل هوارة والمنطقة الثانية جبل مليانة، ثم قاعدة الشرق غرديماو، وبعد الاستقلال شغل منصب أمين عام نقابة السينمائيين والتقنيين والعمال للاتحاد العام للعمال الجزائريين سنة 1980، كما شغل منصب مدير مركز الجزائري والصناعة السينماتوغرافية (كاييك) في التسعينات، إلى جانب ذلك، برز عمار العسكري من خلال نشاطاته الموازية، كعضو مؤسس في مؤسسة "مفدي زكريا" وعضو المجلس الاستشاري، عضو مؤسس لمؤسسة أصدقاء الجزائر مع فييتنام، وكذا عضو رئيس الجمعية الفنية للسينما "أضواء". كما قدم السينمائي عمار العسكري سبعة أفلام أخرى بين طويلة وقصيرة، منها أول أعماله الفيلم القصير "اليوم الأول" و«تعليمة "1967، فيلم "البلاغ"، "البارحة شهود" وترك في خانة الفيلم الطويل بصمة هامة من خلال أعمال ناجحة، على غرار "جحيم في سن العاشرة" 1969 الحائز على جازة "الغزال الذهبي" والنقد الدولي في مهرجان السينما الدولي بالرباط.