يرى السيد جمال شرفي رئيس المجلس العربي الأعلى للمعمار والعمران وتطوير المدن، أنّ القصبة أصبحت تعيش الاندثار والزوال، كما أنّ ما يقام حولها من ملتقيات لا يعدو محتوى مفرغا لا يتجاوز التنظيم الشكلي، ولا يستدعَى إليها الخبراء ولا توصيات لها. القصبة حسب ضيف «المساء» أصبحت أكثر تدهورا بعد تصنيفها من طرف اليونسكو، وأصبح الناس يترحمون على فترة ما قبل التصنيف، حيث كان الترميم أكثر فعالية خاصة بمشاركة أهلها، لتبقى اليوم تحت قهر الاهتراء، وبالتالي فقد سئم الجميع عشرات الملتقيات التي لا تعدو كونها لقاءات سياحية، تبقى توصياتها إن وُجدت، مخبأة في الأدراج. يؤكد السيد شرفي أنه لا بد من تغيير السياسة المنتهجة تجاه القصبة، التي انتقلت المسؤولية عنها من وزارة الثقافة لتبقى المؤطر والمشرف الأكاديمي فقط، إلى ولاية الجزائر المتكفلة بجانب الصفقات والترميم والتأهيل، إلا أن الولاية بدورها تعاني من زخم الأعباء وعلى رأسها ما يُعرف ب «الرحلة» والتكفل بشؤون الجزائر الوسطى مثلا، التي يتم فيها الاعتناء بالبنايات القديمة و«تبييض الواجهات». طرح المتحدث مشكل غياب المقاولات واليد العاملة المتخصّصة، مما تسبّب في الاستعانة بمكاتب دراسات وخبرات أجنبية بشكل استعجالي، نتج عنه أخطاء جسيمة. وفي هذا الشأن ذكر السيد شرفي أنه تم فيما سبق إعطاء صفقات عمومية بالتراضي فقط، وسارت العملية نحو الترميم الخارجي ونحو محو الشقوق، لكن الترميم الداخلي الذي يمس الهيكلة كان يتطلب مراعاة إجراءات السلامة. يرى المتحدث أنّ القصبة نموذج للمعمار السياحي، وهي لا تقلّ في هذا الاتجاه عن مدينة تونس القديمة، التي تميزت عن غيرها من مدن المتوسط، فعُرفت، مثلا، بلونها الأبيض والأزرق، وفي كلّ ربيع يتم طلاؤها لاستقبال السياح صيفا، ناهيك عن إقامة المرافق الكثيرة، منها المقاهي والمطاعم والفنادق وغيرها، مع تشجيع المستثمرين، لذلك أصبحت مزارا استثماريا. ويضيف: «إنّها مدينة تونس التي لا تمثل سوى عُشر مساحة قصبة الجزائر ذات 105 هكتارات، والتي كان من الممكن أن تتحوّل إلى أكبر متحف للتراث مفتوح في العالم؛ ما يضمن مداخيل سياحية تفوق مداخيل البترول». وأشار السيد شرفي إلى أنّ القصبة كان بها 55 ألف ساكن، وتم تسكين 120 ألف ساكن. ونظريا، من المفروض أن تكون هذه القصبة فارغة عن بكرة أبيها، لكن العكس كان، حيث لم تفرغ من الساكنين الذين لا يكفّون عن طلب السكن الاجتماعي بطرق الاحتيال، منها تزوير شهادة الإقامة أو تدمير بعض السكنات وغيرها. ويتساءل المتحدث: «أين هو الخلل في ملف القصبة؟ وما هو الحل؟». ويجيب بأن السياسات التي ينصح بها السلطات المعنية تتمثل في الترميم التشاركي مع الساكنة، والحرص على أن يبقى ابن القصبة الأصيل في حيه ولا يرحل إلى أماكن بعيدة لا يتأقلم معها، وأن يساهم في عملية الصيانة، إضافة إلى تجاوز سياسة الشعبوية التي أسالت لعاب الطامعين الذين لا علاقة لهم بالقصبة، مع الحرص الدائم على حماية البنايات الفارغة، مؤكدا أن أيّ تراخ أو استمرار للسياسات السابقة سيبقي الحال على ما هو عليه إلى 20 سنة قادمة. وفيما يتعلق مثلا بالديوان الوطني لتسيير واستغلال الممتلكات الثقافية المحمية، فإنّ به 17 مهندسا مؤهلين يعملون في مجال التراث والترميم، وينتهجون أسلوب الجراحة التجميلية، الأمر الذي يتطلب وقتا كبيرا وتدخلا كبيرا جدا؛ بمعنى أنه يتطلب أكثر من 3 آلاف مهندس يعملون لمدة 10 سنوات. وأشار المتحدث إلى أنّه اقترح على الوصاية ممثلة في الحكومة، تقسيم القصبة إلى قطاعات، تصنّف على أساس وضعية بناياتها (أحمر برتقالي أخضر)، فالأحمر الذي هو آيل للسقوط لا يحتمل الترميم، أو الذي هُدم يعاد بناؤه من جديد مع الاحتفاظ بأصالته. والبرتقالي يرمَّم فيه المتضرر، والأخضر يُحتفظ به، ويجب حسبه أن تحوَّل القصبة إلى خلية نحل، يكون العمل فيها جماعيا وفي آن واحد، وليس بالجزء والقطعة وإلا ستتواصل مسيرة السلحفاة، وستتم خسارة حتى ذلك المرمم نتيجة الإهمال، وستتواصل الحلقة المفرغة، ويتواصل معها الانهيار إذا لم تتغير السياسات المبنية على التدخل الجماعي وتسييج القطاعات. من جهة أخرى، حث المتحدث على مراجعة سياسة التدخل الخاطئة، وعدم الاعتماد المطلق على الطرف الأجنبي الذي يلهث وراء الربح السريع، والذي صُرفت عليه مبالغ فلكية لا يصدقها عقل. وأكّد السيد شرفي أن القصبة كان البعض ممن مروا على مشروع ترميمها يتعاملون معها على أنها إمارة خاصة، وبالتالي انتُهكت بعض القوانين والإجراءات القانونية، مما خلّف عدة قضايا دخلت المحاكم. وأشار السيد جمال شرفي إلى أنه كان يرفض رسميا تبنّي مكاتب دراسات أجنبية في هذه المشاريع، خاصة مع الفراغ القانوني، حيث كانت، للأسف، تتم الصفقات بالتراضي، وكانت في صالح الأجانب الذين لم يكونوا معتمَدين حتى في بلدانهم، ولا يمارسون المهنة، فكانوا في الجزائر بمثابة المرتزقة الذين يحصدون الأرباح ويهربون. ويرى المتحدث أنّه حان الوقت لإخراج التراث من سجنه نحو إطار منظّم ضمن مجال الخبرة، مع إعطاء الأولوية للمهندسين ذوي الخبرة وبالتكوين الميداني؛ حتى لا يكون الأمر حكرا على فئة معيَّنة، مع تجاوز عقدة الخبير الأجنبي الذي لا يُسمن ولا يغني من جوع. سوسيولوجية العمران مغيَّبة في الجزائر يرى السيد شرفي أنّ سوسيولوجية العمران في الجزائر ظلت مغيَّبة، ولم تراع خصوصية الإنسان والمكان. وأشار إلى أنّ ناس القصبة، مثلا، لا يمكنهم أن ينسلخوا عنها ويستوطنوا بمنطقة الأربعاء مثلا، وهكذا، ولذلك يعتبر هذا المشكل نقطة ضعف عندنا خاصة في عمليات إعادة التأهيل. وأكد المتحدث أن هذا التباين ولّد الكثير من الآفات الاجتماعية، مثلما حدث ذات مرة بحي عين النعجة؛ حيث اندلعت حرب الأحياء، وبدأ السطو وحرق العمارات. وتَبين أن الوسط الحضري غاب عنه التأهيل، فغاب البواب، وغاب الجار القديم، وبالتالي غاب التآلف والهدوء. وفي إطار سوسيولوجية العمران دائما وبالاتجاه نحو الجنوب، غابت أيضا الخصوصية العمرانية، وغابت معها العادات والسلوكات الاجتماعية. وهنا يقول المتحدث إن الجنوب عُرف بالقصور، وهي سكنات متلاصقة ومتلاحمة بُنيت بمواد محلية (عمارة طينية)، وبممرات ضيقة، ومساحات ظل تلطف الجو صيفا وتدفئه شتاء، لكن تم تصدير الإسمنت والآجر الغريب عن هذه المناطق، مما زاد في استهلاك الطاقة. كما غابت الخصوصية المعمارية من واد سوف وغرداية وغيرهما، وكذلك الحال بالنسبة للأحياء الراقية القديمة بالعاصمة ذات الفيلات الصغيرة بالحدائق والأسوار القصيرة، التي حُوّلت إلى سجون بأسوار عالية وبأسلاك. كما زاد الفكر التجاري؛ حيث انتشرت في السكنات الخاصة المحلات وشقق الكراء؛ مما زاد في القضاء على الهوية المعمارية. وحث السيد شرفي على الاتجاه نحو استعمال المواد النبيلة في البناء التي تضمن الديمومة، إضافة إلى الاعتناء بالعمارة الطينية، التي أصبحت في بلدان مجاورة نتيجة تطويرها ب5 نجوم، وكذلك عمارة الأوراس وجرجرة الحجرية المصقولة بفن. كما توقف عند الاعتناء بخصوصية وفخامة البناء، خاصة في الجامعات، مما يولد عند الطالب رهبة المكان، مؤكدا أنّ للعمارة دورا كبيرا على سلوك الإنسان في مجتمعه. بناه الجزائريون بسواعدهم وخبرتهم للنسيج المعماري الاستعماري نصيب من الاهتمام أشار ضيف «منتدى المساء» إلى أنّ الترميم جار في الوسط الحضري ذي التراث غير المصنف، والمتعلق بالعمران إبان الفترة الاستعمارية الفرنسية، لكن الترميم اقتصر على المظهر الخارجي، وبقي التدخّل العميق الذي يضمن استمرار النسيج لعمر أطول محدودا، وهنا ذكر أنّ أوربا لها نفس النسيج، ووضعت له «دفترا صحيا» خاصا بكل مبنى، وهو تقليد قديم ضمن إطار قانوني يشرف عليه بواب أو حارس العمارة، مع تدوين أي ملاحظات أو عمليات المراقبة، ويساعد ذلك في التشخيص لإيجاد الدواء. وأوضح المتحدث أن الجزائر هي البلد المتوسطي الوحيد الذي ليس له وكالة تعنى بهذا التراث الحضري، علما أن دواوين التسيير العقاري مهتمة فقط بالبناء الحديث، أما ما يخص فترة ما قبل الاستقلال، فهي من اهتمام مديرية أملاك الدولة التي تفتقد لمصالح تقنية مؤهلة لهذا الجانب، وبالتالي فخلال 50 سنة الفارطة تفشى الاهتراء بدون أن يكون هناك وكيل يصون هذا النسيج المعماري ما عدا عمليات «الماكياج» التي تتم. وأكّد شرفي أن غياب النسيج المعماري الاستعماري يعني اختفاء ملامح العاصمة الحديثة وباقي المدن الجزائرية، لأن ما يتبقى سيكون لا علاقة له بالعمران لعدم احترامه المخططات، ناهيك عن التوسع العشوائي الأفقي السرطاني الذي شوّه العاصمة، وبالتالي صعب استئصاله، لتمتد الفوضى أكثر. ويرى المتحدث أن الإرث المعماري الفرنسي جزء من تاريخنا المعاصر، فرض نفسه في المشهد ولا يجب أن يمحى، والجزائريون هم من بنوه بسواعدهم وخبرتهم التي اكتسبوها من مؤسسات التكوين المهني المحترف بما في ذلك المهن الثانوية التي يعزف الفرنسيون عنها. وبالجزائريين حققت فرنسا أكبر المشاريع (تحقق الرفاه المعماري) هنا بالجزائر «المستعمرة الأبدية» وحتى بفرنسا نفسها رغم أن المهندسين كان أغلبهم فرنسيس، وهذا التراث جار تصنيفه اليوم بدءا من ولاية الجزائر؛ كالبريد المركزي ومقر الولاية (كمعمار متوسطي). وبعد الاستقلال، كل ما بُني كان ضمن مخططات استعجالية لم تعن بالهوية المعمارية الجزائرية، وبالتالي لا يمكن القول حسب المتحدث إن هناك هوية في حي براق أو الحميز مثلا، وقس على ذلك مناطق أخرى، ليمتد نمط فوضى العمران بامتياز.