يؤكد المختصون في طب الوقاية وعلم الأوبئة، أن وباء الكوليرا أنارَ العديد من نقاط الظل التي كانت غير واضحة في أذهان الناس، وأن "واقعة وادي عزة" بالبليدة، كانت نقطة تحوّل تبين من خلالها أن الصحة ليس مهمة وزارة الصحة وحدها، خاصة ما تعلق بالوقاية، كمرحلة استباقية قبل أن "يقع الفأس في الرأس" وتنتشر الأمراض الوبائية والأخرى المزمنة والمستعصية، وأن كل القطاعات لها ضلع في هذه العملية التي يفترض أن تكون مستدامة، وأن ذلك مرتبط بإستراتيجية وطنية يجب أن تؤسس لثقافة تغلّب الوقاية عن العلاج، وتسهم في رفع الوعي الصحي لدى المواطنين. "عوض أن تصف الدواء للمريض الذي أصيبت رئتاه انصحْه بالتوقف عن التدخين"، و«لا تحاسب مَن يطفئ النار، بل انتبهْ إلى مَن تسبب في إضرامها" هكذا يرى المختصون في الطب الوقائي، الذين يؤكدون أن الوصول إلى مرحلة العلاج لا تعني أن العاملين في قطاع الصحة لم يقوموا بالواجب. ويجمع من التقيناهم في هذا الاستطلاع واستقصيناهم حول مرحلة "ما بعد الكوليرا"، أن فاتورة الوقاية أقل تكلفة من فاتورة العلاج، وأن تغيير الثقافة ومعها سياسة المنظومة الصحية، لن يتأتي إلا بإجراء دراسات وخبرات حول الأمراض المستشرية، وتقديم إحصائيات دقيقة حول التكاليف التي تنفقها الدولة على المرضى، وينتظرون من الوصاية الاستفادة من المحطات المسجلة هنا وهناك، وآخرها محطة الكوليرا التي أكدت مرة أخرى أنه يمكن التحكم في أي وباء أو مرض مستعص. الكوليرا حدث... والعبرة في الاستمرار يؤكد البروفيسور نور الدين إسماعيل، رئيس قسم الطب الوقائي وعلم الأوبئة بمستشفى مصطفى باشا، أن وباء الكوليرا الذي أيقظ العديد من القطاعات التي كانت "نائمة" ووضعها على المحك، وأسهم بشكل كبير في نفض الغبار عن عدة قناعات وقوانين لم تكن واضحة، وأنه لأول تسجل "صحوة ضمير" ووعي حقيقي بأن الوقاية والصحة عموما ليست مسؤولية وزارة الصحة وحدها، بل تشترك فيها العديد من الأطراف انطلاقا من المواطن نفسه، الذي يجب عليه التحلي بسلوكات صحية في الحياة تجنبه الوقوع في مخالب المرض، منها الوقاية الأولية التي تخص إجراء التلقيحات ضد مختلف الأمراض، والالتزام بعادات صحية، سواء تعلق الأمر بالأكل والنظافة والنوم ثم التحلي بثقافة التشخيص والتحاليل المخبرية، لمعرفة الصحة الداخلية للإنسان، إلى جانب التداوي في الوقت المناسب قبل أن تتعقد الوضعية، ويصاب الإنسان بالأمراض المزمنة، وكذا السرطانات التي تستدعي العديد منها العلاج الكيماوي، والعمليات الجراحية، ويعترف محدثنا أن الجهود التي بذلت لمحاصرة وباء الكوليرا كانت كفيلة بإبعاد الخطر "ولولا سرعة التكفل لكانت الكارثة أعظم"، بخاصة أن العدوى تنتشر بسرعة فائقة، مفيدا أنه لو أن مثل هذه الجهود تستمر وتتوسع لمجالات وقائية أخرى، لخففت الوطأة على المستشفيات وكل المصحات، وقلت نفقات الدولة الموجهة لاقتناء الأدوية، لاسيما السرطان الذي يعد من بين الأورام التي يتطلب علاج فرد واحد نفقات باهظة، ليضيف بأنه يجب إعادة فرض رسوم إضافية على المواد التي تزيد في انتشار السرطان الذي يستنزف خزينة الدولة، ومنها التبغ والكحول التي لا تفيد صحة الإنسان بل تزيد في ترديها. وأكد البروفيسور إسماعيل، الذي يقر بأن الوقاية قضية الجميع وأنه على كل قطاع أن يتحمّل مسؤوليته، أن وزارة الداخلية لها دور هام وتملك كل السيادة وتستطيع أن تفعل أي برنامج لأن الجماعات المحلية تعد الخلية الأولى في المجتمع، والدوائر والولايات تابعة لها، وتستطيع تجنيد الأفراد وتجسيد أي فكرة تخدم الصالح العام. وبشأن الأمراض الأخرى التي صارت تقتل الناس في صمت كالسكتات القلبية والجلطات الدماغية، وأمراض القلب والدم، قال الخبير إسماعيل، إن هذا الأمر يتطلب جهدا وإرادة تبدأ بإجراء خبرة وطنية لتحديد المسببات التي تنخر الصحة العمومية، وتؤدي إلى وفاة الآلاف من الأشخاص بسبب أمراض، يمكن الوقاية منها عن طريق تغيير نمط الحياة، نحو الأحسن باتباع عادات غذائية سليمة، والالتزام بالرياضة، وتجنب الملوثات والابتعاد عن مسببات القلق والتوتر، مشيرا إلى أنه بعد تحديد المسببات يمكن تحديد احتياجات كل اختصاص للنهوض بالوقاية، وما يتطلبه من وسائل وإمكانيات مادية وبشرية. ولم ينف ممثل الصحة أن أقسام الطب الوقائي تفتح أبوابها للمهتمين بالتوعية والتحسيس قائلا: "نحن في خدمة الجمعيات لإسهامها في التحسيس والتوعية، وأعطى محدثنا مثالا عن جمعية "الفجر" لمرضى السرطان، التي شارك معها العديد من الدكاترة في اليوم التحسيسي بسيدي بلعباس، لتنوير الرأي العام بخطر الأمراض السارية، مؤكدا أن الدول المتقدمة، أنشئت بها أحزاب متخصصة في الدفاع الصحة. وقال مصدرنا إن الأمراض تأتي حتى من خارج الحدود، فالعولمة وتنقل الأفراد عامل أساسي في دخول حالات تحمل مختلف الأوبئة والأمراض، وبالتالي فالرقابة والحذر والحيطة يجب أن تكون دائمة، حتى يتم التدخل في الوقت المناسب قبل أن تتعقد الأمور وتصعب السيطرة على الوضعية. من جهته يرى الدكتور لمجداني، الخبير في الطب الوقائي بمستشفى باية حسين "بارني سابقا"، أن الوقاية ليست مسؤولية وزارة الصحة وحدها، وأن هذه القناعة يجب أن تترسخ في الأذهان، وقد أثبتت تجربة انتشار الكوليرا في ولاية البليدة، أن الكوليرا يمكن أن تحدث في أي مكان، مشيرا إلى أن "واقعة البليدة" أفطنت الجميع، وبيّنت العديد من الأمور، منها تحديد المسؤوليات والأطراف، التي يجب أن تكون ضمن دائرة القيام بواجب التكفل، وذهب محدثنا إلى تشبيه العاملين في قطاع الصحة برجال الإطفاء، الذين لا يتدخلون إلا عندما تشتعل النار، وعندها يمكن أن تحرق جزءا كبيرا وأغراضا أساسية، قبل أن يخمدوا ألسنتها، في إشارة إلى انتشار الأمراض سواء الوبائية، المزمنة، أو غيرها التي لا يتصرف معها الطبيب المعالج، إلا عن طريق الأدوية الكيماوية أو العمليات الجراحية. ويؤكد الدكتور لمجداني، أن الوقاية تبدأ من مراقبة المياه والمحيط وكلها مهام تقع على عاتق البلديات، الثقافة الوقائية يجب أن تترسخ لدى الجميع قائلا: "نحن كمسلين، ليس صعبا علينا الالتزام بقواعد النظافة والحس المدني، وديننا يدعو إلى الطهارة بكل أنواعها"، مضيفا أن قطاع الصحة ليس وحده من يتحمّل المسؤولية، وأن المتسببين في مثل هذه الأمراض والأوبئة هم المسؤولون بالدرجة الأولى، وضرب محدثنا مثالا عن الماء الذي يعد ناقلا لأكثر من خمسة أمراض وبائية تنتشر بسرعة فائقة مثل الكوليرا والتيفوئيد وغيرها، فضلا عن العديد من الأمراض الأخرى التي تتسبب فيها الأطعمة غير الصحية وغير النظيفة والمحيط غير الطاهر، وهنا تطرق محدثنا إلى ضرورة أن يتحلى المواطن بثقافة الوقاية، ومراقبة ما يأكل ويشرب وما يحيط به من مخاطر، والتبليغ عنها في وقتها، وهو التطور الاجتماعي الذي يؤدي إلى انقراض العديد من الأوبئة، مثلما هو في الدول المتقدمة التي تخلصت من ذلك، ووجهت ميزانية ذلك لأشياء أخرى تفيد الصحة العمومية. وقال الدكتور لمجداني، إنه للتحكم في مثل هذه الأوبئة وغيرها من الأمراض المزمنة التي تقتل الآلاف في صمت، يجب أن يكون هناك تنسيق مستمر بين كل القطاعات، وأن تتوفر المعلومة "في حينها" لدى كل الهئيات ذات الصلة، ليتم وفقها أخذ الإجراءات في وقتها، وبذلك يمكن وضع الإستراتيجيات وتحديد ما يجب عمله على المدى القريب والمتوسط والبعيد، أوقفوا نزيف الأمراض بتبنّي الوقاية ويطالب الأطباء المعالجون بمختلف تخصصاتهم بإيقاف نزيف الأمراض وأخطرها السرطان، بأن التحول من العلاج إلى الوقاية يجب أن يمر بتوجه سياسي يترجم في مختلف القطاعات، وتكون الدولة حريصة على اعتماد الاستشراف في المجال الصحي، وأن ذلك لن يتأتي إلا برؤية صحيحة للواقع الذي أصبح فيه الطب العلاجي هو الغالب، ولذلك صارت الجامعة تكون فقط لاحتياجات المستشفيات والمصحات العلاجية، وقليلا ما يتم توجيه الطلبة للطب الوقائي، ويرى الدكتور "رابح. ط« العامل في مجال الوقاية والعلاج بالحجامة بالكاليتوس، أن الأطباء كثيرا ما يحتارون في تحديد سبب الألم أو الوعكة الصحية ويفحصون المريض فيصفون له أدوية لا تنفعه، ويعاود الكرة ليكتشف أن الأمر يتعلق فقط، باحترام نظام غذائي والالتزام بعادات حياتية سليمة، سواء تعلق الأمر بالنوم والنظافة وأمور أخرى كردود الأفعال النفسية وغيرها.