دخلت الحرب في أوكرانيا أمس، منعرجا جديدا من شأنه الدفع بأطرافها إلى إعادة النظر في كثير من معطياتها بعد أن نفذت السلطات الروسية، وعيدها بقطع إمداداتها الغازية تجاه زبائنها من الدول الأوروبية التي ترفض سداد عقودها بالعملة الروسية. وأحدث قرار العملاق الروسي " غاز بروم" بقطع إمداداته الغازية باتجاه دولتي بولونياوبلغاريا، حالة استنفار في فرصوفيا وصوفيا قبل أن تنتقل إلى مختلف العواصم الأوروبية التي شعرت بقشعريرة "سيبيرية" لمجرد سماعها هذا الخبر المقلق في مثل هذا الفصل البارد. واحتفظ الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين بورقة الغاز ضمن أقوى الأوراق الرابحة في تعامله مع خصومه، شهرين منذ اندلاع الحرب الأوكرانية ولم يشأ استعمالها بطريقة مباشرة وفورية ردا على سيل العقوبات الغربية التي ضربت كل مناحي الحياة في روسيا رغبة منه في عدم معاقبة المجتمعات الأوروبية. وحتى وإن لم يستعملها بطريقة مباشرة وفورية إلا أنه استعملها بطريقة ذكية عندما ربط دفع قيمة كميات الغاز المسوقة في مختلف البلدان الأوروبية، بالروبل الروسي لمعرفته المسبقة بمعنى التخلي عن عملتي الأورو والدولار في صفقات بالملايير وتأثيراتها على اقتصاديات الدول الغربية وعملتيهما الطاغيتين على كل التعاملات الاقتصادية العالمية. وهو المبرر الذي دفع ديمتري بسكوف، الناطق باسم الرئاسة الروسية إلى القول أن تعليق ضخ الغاز الروسي باتجاه دولتي بلغارياوبولونيا جاء ردا على عدم دفعهما قيمة الكميات المسوقة بالعملة الروسية ضمن تصرف وصفه بالمعادي ضد بلاده. وقال إن روسيا اضطرت إلى اعتماد الدفع بعملتها الوطنية بعد "سرقة" جزء كبير من ودائعها المالية في الخارج في إشارة إلى العقوبات الاقتصادية التي فرضتها الدول الغربية على بلاده عقابا لها على حربها ضد أوكرانيا، نافيا في رد على رئيسة اللجنة الأوروبية، اورسيلا فون دير لاين، أن يكون الإجراء ابتزازا ضد الدول الغربية. ويبدو أن القرار الروسي ضد بلغاريا وبولندا بدأ يؤتي نتائجه بعد قرار النمسا والمجر قبولهما سداد ثمن الغاز الطبيعي الروسي وفق الآلية التي طرحتها موسكو. وسبق للرئيس الروسي، فلاديمير بوتين ان وقع مرسوما حول آلية سداد ثمن الغاز ردا على حزمة العقوبات الاقتصادية الغربية المفروضة ضد بلاده على خلفية النزاع في أوكرانيا. والمؤكد أن الدول الأوروبية الأخرى التي تضمن تموينها بالغاز الروسي ستجد نفسها مرغمة على قبول الشرط الروسي لتفادي كل قطع لإمداداتها في عز هذا الفصل البارد في ظل غياب بدائل أخرى أمامها لتخطي تداعيات هذه الأزمة المعقدة والمتعددة الأوجه. وحتى وإن أكدت رئيسة اللجنة الأوروبية أن دول القارة احتاطت لاحتمال قطع موسكو لغازها وستعمل على تبنّي رد متجانس ومنسق بينها، إلا أن هامش المناورة أمامها يبقى ضيقا إذا سلّمنا بأن روسيا تضمن قرابة نصف إمدادات أوروبا من هذه المادة الحيوية، في ظل شح مصادر تموين أخرى، بدليل أن المسؤولة الأوروبية لم تحدد طريقة التكيف مع هذا الطارئ ولا آجال دخولها الخدمة، ومدة تطبيق خطة الطوارئ المعتمدة في حال أصرت روسيا على موقفها بخصوص هذه المادة التي عرفت أسعارها صعودا غير مسبوق بسبب الحرب الأوكرانية. واذا كانت بلغاريا وبولندا أول دولتين راحتا ضحية القرار الروسي، فإن التساؤل الكبير يطرح بخصوص قرار دول أوروبية كبرى تعتمد على تموينها بالغاز الروسي، وما اذا كانت ستذعن لمطلب الرئيس بوتين، بدفع مستحقاتها بالعملة الروسية؟ ويطرح هذا التساؤل بشكل كبير بشأن الموقف الذي ستتخذه ألمانيا التي تبقى أكبر مستورد للغاز الروسي في العالم، والتي ستجد نفسها عاجلا أو آجلا في نفس وضعية بلغاريا وبولندا؟ والمؤكد أنه في حال رضخت برلين لشروط موسكو، فإنه يمكن القول حينها أن روسيا تمكنت من إحداث شرخ في الصف الغربي المناوئ لروسيا، ويمكن أن يحدث ذلك أكبر هزّة في تجانس مواقفها حتى وسط إلحاح الولاياتالمتحدة على البقاء صامدين إلى غاية تمكين أوكرانيا من ربح حربها ضمن رهان يبدو أنه بعيد المنال على الأقل في ظل مؤشرات الوضع الميداني الحالية.