خلّفت الفترة العثمانية التي تُعد فترة طويلة ومهمة من تاريخ الجزائر، الكثير من الآثار المعمارية، وفي مختلف مدن البلاد. وتركت بصماتها واضحة جلية على المباني المشيَّدة فيها، خصوصا الدينية والمدنية منها. ومازالت مدن الجزائر تحتفظ بالعديد من المعالم، على غرار الجزائر وقسنطينة ووهران ومعسكر ومستغانم وغيرها. ومن ضمن المعالم المدنية المهمة الشاهدة على تلك الفترة التي مر بها تاريخ الجزائر، نذكر قصر الباي بوهران، الذي مايزال الطابع الأصلي للبناء فيه شاهدا على مرحلة من مراحل البناء الحضاري التي مرت بها بلادنا، فهو يُعتبر إرثا معماريا وفنيا، ورصيدا حضاريا، يجب دراسته، والمحافظة عليه، والاعتناء به. يقع القصر ضمن المجمع المعماري المسمى القصر الجديد، الذي يضم، أيضا، البرج الأحمر، والأبراج الإسبانية، والقطاع العسكري، ومنتزه ابن باديس والفندق. فغداة جلاء الإسبان اختار الباي محمد الكبير المنطقة الأهم من القلعة الحصينة المسماة بالقصر الجديد، وهي المنطقة الجنوبية لبناء قصره، حيث يشرف على المدينة القديمة والجديدة في آن واحد. كما يشرف على الجهة الجنوبية والشرقية، وعلى الواجهة البحرية. وقد ورد ذكر هذا القصر في الكثير من النصوص التاريخية، العربية والأجنبية، والتي أجمعت على ذكر مؤسّسه، وهو الباي محمد الكبير فاتح وهران. وفي هذا الصدد يقول الراشدي: ".. ثم بنى في السنة السابعة والمائتين والألف، قلة البرج الأحمر..". أهمية تاريخية واستراتيجية أصبح القصر مقر حكم وإقامة الباي محمد الكبير والبايات من بعده طيلة ثمانية وثلاثين سنة. ونظرا لأهمية هذا القصر التاريخية والإستراتيجية اتخذه الاحتلال الفرنسي مقرا للحكام العسكريين، وثكنة عسكرية، تضم - إضافة إلى العشرات من الجنود - مسؤولي معظم القطاعات العسكرية، وقد أُطلق عليه اسم "فندق الفرقة العسكرية". ويُعدّ قصر الباي من بين أهم المنشآت المعمارية الموجودة في وهران، والتي يعود تشييدها لأحد أبرز بايات الجزائر، وواحد من الشخصيات التي حفل بها تاريخ بلادنا. سجّل حضوره القوي في الربع الأخير من القرن الثامن عشر، وارتبط اسمه بتحرير وهران من الاحتلال الإسباني، إنه الباي محمد بن عثمان الكبير؛ الكبير بفتح وهران، والكبير، أيضا، بمنجزاته المعمارية العظيمة. فلما تَسلّم الباي محمد الكبير بايليك الغرب، شرع في محاربة الإسبان، والتضييق عليهم، ومحاصرتهم بدون انقطاع. وفي محرم 1205ه /أكتوبر 1790م وقع زلزال عنيف دمر أغلب المباني، فاستغل الباي حالة الفوضى والاضطراب التي عمت المدينة في مهاجمة الإسبان في مدينة وهران، الذين رغم التعزيزات التي وصلتهم من إسبانيا، اضطروا في الأخير، لطلب الصلح، ووقف القتال، مستجيبين لمعظم شروط الجزائر. إعادة المجد الضائع بعد جلاء الإسبان عن وهران مباشرة، دخل الباي على رأس المجاهدين في الخامس رجب عام 1206ه/29 فبراير 1792م، واتخذ وهران عاصمة لبايليكه، وحاول أن يعيد لهذه المدينة مجدها بعد أن كانت عبارة عن قلعة محصنة شبه مغلقة، وبذل جهودا معتبرة لتعميرها وإصلاح ما تخرب منها، واستقدم إليها السكان من كل مكان. لقد أنشأ وأصلح الباي محمد الكبير الكثير من المباني الدينية والمدنية والعسكرية، وتلمسان، ومستغانم، والجزائر، ومليانة والبرج. أما في مدينة وهران، فقد بنى الجامع الأعظم المعروف بجامع الباشا. وبنى بخنق النطاح مدرسة حوّلها إلى مسجد، يُعرف إلى اليوم باسمه. كما بنى بالمدينة القديمة جامعا يسمى حاليا باسمه. كما بنى القصر المعروف باسمه، وهو قصر الباي. ويمتد القصر من الجنوب إلى الشمال على شكل شبه منحرف. يبلغ طول قاعدته الكبرى حوالي 90م، والصغرى حوالي 40م. وتقدر مساحته ب 4000م2، وهو يتكون من عدة أقسام (أجنحة) هامة، وهي الديوان، ودار الإقامة (الحرم)، والمبنى المفضل، ودار الضيافة (الدويرة)، والحمّام، إضافة إلى الحديقتين اللتين تعدان عنصر ربط واتصال بين الأقسام المذكورة. وعلى غرار قصور ودُور العهد العثماني في الجزائر التي تميز مظهرها بالبساطة والتواضع، جاءت جدران قصر الباي ساذجة وعاطلة عن الزخرفة. ونصل إلى أقسام القصر عبر مدخل غير بارز يتوسط، تقريبا، الضلع الشمالي، مشكَّل من عقد منكسر متجاوز، يرتكز على دعامتين مستطيلتين، يتقدم حجرة شبه مربعة مفتوحة من جهة الجنوب، على حديقة كبيرة. "الديوان".. مقر الحكم يُعدّ الديوان أهم أجنحة القصر باعتباره قاعة استقبال، ومقرا للحكم. يقع في الناحية الشرقية، ويشرف على الحديقة الكبرى. يتقدمه رواق مكون من صفين من الأعمدة الرخامية. ندخل عبر مدخل متوسط الاتساع إلى قاعة الديوان، وهي مستطيلة الشكل طولها 04.14م وعرضها 24.8م وارتفاعها 4م، ذات أرضية خشبية مستحدثة. يقوم في منتصفها صف من ستة أعمدة مزدوجة من الرخام، تحمل خمسة عقود منكسرة متجاوزة. هذا الصف من الأعمدة يقسم القاعة إلى قسمين متقايسين. ولهذه القاعة نوافذ كبيرة، أربعة منها تُفتح على الحديقة الكبرى من ناحية الغرب. واثنتان تُفتحان على الخارج من ناحية الشرق. ويكسو جدرانها بلاطات خزفية أصيلة إلى ارتفاع 58.2م، تمثل تجميعات من أربع مربعات خزفية من عدة أنواع. أما أعلى الجدران فنجد رسومات جدارية مختلفة. كما زُخرف السقف الخشبي، هو الآخر، برسومات متعددة على أرضية جصية رفيعة. وجميع هذه الرسومات استُحدثت زمن الاحتلال. أما المبنى المفضل فيحتل الجهة الجنوبية من القصر، مفصول تماما عن باقي الأجنحة. يتكون من ردهة وحجرة وشرفة. ويشكل مساحة تقدر ب 46م2. نرتقي إليه من حديقة صغيرة عبر درج صاعد. واجهته مزدانة بثلاثة عقود نصف دائرية تستند على عمودين رخاميين. ويتقدم الحجرة ردهة مستطيلة مساحتها 75.8م، عرضا و95.2م عمقا، ويصل ارتفاعها إلى 4م. أما الحجرة فمربعة الشكل، مساحتها 63.3م في 61.3م وارتفاعها 46.3م. لها نافذة في حائطها الغربي. يعلوها عقد منكسر متجاوز. كما لهذه الغرفة أربع خزائن جدارية، تتوزع على حوائطها، متوجة كلها بعقود إهليليجية. وتمتد هذه الحجرة جنوبا، مشكّلة إيوانا، تُفتح في حائطه الجنوبي نافذة، تأخذ شكل عقد منكسر متجاوز. زخارف نباتية وهندسية زُيّنت الحوائط العليا بزخرفة جصية حديثة. أما السقف فهو خشبي، تكسوه زخارف نباتية وهندسية. يحيط بهذه الحجرة من الخارج من ثلاث جهات، شرفة يقدر 19 جميلة، تعود كلها إلى الحقبة الاستعمارية، عمقها ب1م، ذات درابزين معدنية حديثة، تعلوها أقواس منكسرة متجاوزة. ويحتل هذا المبنى موقعا استراتيجيا هاما من خلال إشرافه على المدينة من كل جهاتها. وتُعتبر حجرته أهم الحجرات؛ حيث تأخذ اتجاها شماليا، يسمح بتلقّيها نسمات البحر الرطبة، ويمنع عنها هبوب الرياح الساخنة الآتية من الجنوب صيفا. ويقع مبنى الإقامة (الحرم) في الجهة الغربية من القصر قبالة الديوان، تفصل بينهما الحديقة الكبرى. ويحتل مساحة تقدر بحوالي 870م2، مكون من طابقين، كان مخصصا لإقامة الباي وأسرته. أطلق عليه الفرنسيون اسم الإقامة الزرقاء. وللمبنى مدخل بسيط يتوسط الحائط الشرقي، نصل من خلاله إلى ردهة مربعة مفتوحة مباشرة على صحن مستطيل الشكل، تبلغ مساحته 75.13م طولا و95.7م عرضا. أرضيته مبلطة بقطع مربعة زرقاء، ترجع إلى الفترة الاستعمارية، تتوسطه نافورة من الرخام الأبيض تبدو غير أصلية. عناصر معمارية متميزة يحيط بالصحن من جميع جهاته أربعة أروقة ذات أعمدة أسطوانية من الحجر الكلسي، مزدانة بتيجان محلية بسيطة. تحمل هذه الأعمدة عقودا نصف دائرية غير متجانسة فيما بينها. يبلغ عددها في كل من الرواق الشرقي والغربي، خمسة عقود، بينما يبلغ عددها في كل من الرواق الجنوبي والشمالي، ثلاثة عقود. ويتوزع حول هذه الأروقة عدد من الغرف مختلفة المساحة وإن كان معظمها يميل إلى الاستطالة، وهي تُفتح على الصحن من خلال نوافذ. إن هذه الأروقة الأربعة الموجودة بالطابق الأرضي والتي تفصل بين الصحن ومرافق المبنى، لا تتكرر بنفس الشكل في الطابق العلوي باستثناء الرواق الجنوبي، الذي حافظ على بعض عناصره المعمارية، ومنها الأعمدة الأربعة التي تستند عليها عقود مصمتة فُتحت بها نوافذ على شكل نصف قرص. ومهم أن نشير إلى أن عدد غرف الطابق العلوي يصل إلى سبعة عشر غرفة مختلفة المقاسات، تتوزع حول تلك الأروقة المشرفة على الصحن من ثلاث جهات، إلا أن معظم هذه الغرف حديث البناء. وعادة ما كانت تتوفر القصور والدُّور في الجزائر خلال الفترة العثمانية، على الحمامات، التي تتكون من غرفة فأكثر، على غرار قصر الباي، الذي يقع حمّامه في الجهة الشمالية الغربية ملاصقا لمبنى الإقامة، يتكون من أربع غرف، يتقدمها رواق مسقوف، شُكل من خمسة أعمدة من الحجارة الكلسية ذات تيجان محلية تحمل خمسة عقود منكسرة متجاوزة. وفي مقابل هذا الرواق بُني رواق آخر مماثل له حديث، يتقدم دورة للمياه. ويفصل بين الرواقين فناء مربع طول ضلعه 48.10م. ورغم أن هذا الحمّام حافظ على طابعه الأصيل ممثلا في تركيبته وبعض عناصره المعمارية، إلا أنه، في المقابل، فقد معظم مرافقه الضرورية، ولا سيما الفرناق، والأحواض الرخامية، ومخزن الخشب، وخزانات الماء. مباهج الحياة في"الجنينة" وتقع دار الضيافة (الدويرة) إلى اليسار من المدخل الرئيس للقصر، يتقدمه رواق من ثلاث عقود منكسرة متجاوزة، يبلغ طوله 7م وعمقه 30.2م، ومنه نصل إلى غرفة مربعة تقدر مساحتها ب 14م2 ذات قبة ثمانية الأضلاع. وإلى الشرق من هذه الغرفة نصل إلى غرفة ذات شكل شبه منحرف طولها 30.5م وعرضها 37.2م. ويقع يمين الغرفتين السابقتين غرفة مستطيلة طولها 90.7م وعرضها 65.2م ذات سقف متقاطع. يوجد بركنها الجنوبي الشرقي فتحة لمدخنة ماتزال تحمل آثار الاحتراق. ونعتقد بوجود موقد في المكان السابق، وعليه فإن الغرفة يُحتمل أن تكون مطبخا. وكانت الحديقة تُعرف محليا ب "الجنينة". وتُعتبر من أهم العناصر التي يقوم عليها تصميم البيت الريفي خاصة، ففيها يحس المرء بمباهج الحياة الخاصة في مقام هو بمنأى عن كل فضول وإزعاج، من خلال ما كانت تحتويه الحدائق من أشجار للتزيين تارة، وللمنفعة الغذائية تارة أخرى، وأزهار وورود، وعيون ونافورات للمياه، وربما أقفاص للطيور. ويضم قصر الباي حديقتين. أما الأولى وهي الحديقة الكبرى فنصل إليها عبر المدخل الرئيس مباشرة. تتوسط الديوان والمباني الفرنسية ودار الاستراحة من جهة، ومبنى الإقامة من جهة أخرى. تأخذ شكلا شبه منحرف. وتتربع على مساحة واسعة تقدر ب 583م2. يتوسطها حوض مائي من الحجر، تقوم في وسطه نافورة للمياه. كما تضم الحديقة، حاليا، الكثير من الشجيرات والورود. أما الحديقة الصغرى فتقع جنوب الحديقة الكبرى، نصل إليها عبر مدخل معقود يتخلل الممر (النفق) الرابط. تأخذ الجنينة 26 ما بين دار الإقامة والديوان. كان يستخدمه الباي، على الأرجح، للتنقل بين الجناحين. الصغرى شكلها مضلع، وتقدر مساحتها ب437م2. يشرف عليها المقر المفضل للباي من الناحية الجنوبية والواجهة الجنوبية لمبنى الإقامة من الناحية الشمالية، والمباني الفرنسية الملحقة بالديوان من الجهة الشمالية الشرقية. تتوسطها نافورة مياه مشكَّلة من حوضين رخاميين متراكبين. ويحتل محورها الأوسط ستة أعمدة، أربعة منها مصنوعة من الرخام تحمل تيجان كورنثية، شُكل منها، على ما يبدو، إضافة إلى أعمدة أخرى مفقودة، رواق مفتوح يربط بين المقر المفضل، ومدخل يُحتمل وجوده في الواجهة الجنوبية لمبنى الإقامة. كان يُفتح على الجنينة، يستعمله الباي وأفراد أسرته لا أثر له اليوم، وفُتح بدلا منه المدخل الرابط بين الحديقتين.