احتضن المتحف العمومي الوطني البحري بالعاصمة، أوّل أمس، أشغال الملتقى الوطني حول "التراث الثقافي البحري الساحلي المغمور بالمياه" بالتنسيق مع المركز الجامعي "عبد الله مرسلي" بتيبازة، بمشاركة باحثين ومؤرّخين دعوا إلى ضرورة التنقيب في هذا التراث المهم الممتد عبر الساحل الجزائري لكتابة المزيد من تاريخنا الوطني مع تثمين البحوث التطبيقية للجامعات ومراكز البحث المختصة. بالمناسبة، صرحت السيدة آمال مقراني بوكاري مديرة المتحف البحري ل"المساء" أنّ مهمته توثيق وجرد وحماية وترميم والتعريف بالتراث الساحلي والبحري، وأنّ للمتحف أنشأ سنة 2013 قسمه الخاص بالآثار المغمورة بالمياه، كما أنّ لديه 5 غواصين محترفين، ما سمح بعمليات تدخّل ميداني في دلس مثلا وتمنفوست وشرشال، مضيفة أنّ الجزائر غنية بهذا التراث البحري، خاصة منه المغمور لذلك أصبح في قلب الاهتمام لاسيما منذ التوقيع على اتفاقية 2015 المتعلّقة بهذا التراث المغمور وقالت "الملتقى هو تقرير حال وضعية هذا التراث البحري للخروج بما يحمي هذا التراث علما أنّ الفعاليات تشهد مشاركة 10 جامعات جزائرية". حضرت الأشغال السيدة نبيلة شرشالي ممثلة وزيرة الثقافة ومديرة حفظ وترميم التراث الثقافي بالوزارة التي أكّدت في تدخّلها على أنّ التراث الثقافي البحري للجزائر يعتبر إرثا ثريا يعكس تاريخ التعايش الوثيق للإنسان الجزائري مع البحر المتوسط، والذي يشمل جميع الروافد المادية أو غير المادية المرتبطة بالأنشطة البشرية التي تمّ تطويرها في الماضي فيما يتعلّق بالبحر وتعكس الثراء التاريخي الذي تتألّق فيه الجزائر عبر العصور. كما أكدت شرشالي أنّ هذا التراث كان دوما موضع اهتمام وزارة الثقافة تم تدعيمه بقانون 04/98 المتعلق بحماية التراث الثقافي وتجسّد من خلال وضع استراتيجية عمل التزمت بها المؤسّسات الخاضعة للوزارة فبادرت بأولى عمليات الحفظ والجرد والتنقيب والمسح، إضافة إلى البحث العلمي بالتعاون الوثيق مع الجامعة ومراكز البحث، ما أدى إلى توثيق واستقراء جديد للتاريخ الوطني. من جهة أخرى، قالت ممثلة وزيرة الثقافة إنّ التراث البحري المجاور للبحر غالبا ما كان ضحية لارتفاع منسوب مياه البحر والكوارث الطبيعية، ما أدى إلى غمره في قاع البحر، علما أنّه من أهم الدلائل المادية على التواجد البشري على طول سواحلنا الوطنية. كما تعزّز هذا الاهتمام، حسبها، مع 2015 حين مصادقة الجزائر على اتفاقية عام 2001 لحماية التراث المغمور مع الالتزام بدمج ذلك في التشريع الجزائري، لأنّ الاتفاقية تعترف بأهمية التراث المغمور بالمياه كجزء لا يتجزأ من التراث الثقافي للإنسانية، وبالتالي فإنّ جميع آثار التواجد البشري التي تجاوزت ال100سنة تمثّل إرثا ثقافيا وتاريخيا، ما يلزم الجزائر كدولة غنية في هذا المجال بالحفاظ على تراثها المغمور بالمياه، علما أنّ الجزائر كانت قد أعربت لمنظمة اليونسكو على اهتمامها بالمشاركة في الحفظ على موقع أثري بمضيق صقلية وهو تراث مشترك بين عدة بلدان، كما أوضحت المتحدّثة أنّ الوزارة أنشأت من خلال المركز الوطني للبحث في علم الآثار قسما متخصّصا في التراث المغمور بالمياه وانطلقت العمليات مع المتحف البحري على طول السواحل من أجل وضع استراتيجية عمل مع حصر ورسم الخريطة الأثرية للمواقع المغمورة واستكمال الخريطة الأثرية الأرضية. تدخّل بعدها الدكتور يوسف بن سعيداني من جامعة تيبازة الذي أكّد أنّ الملتقى ثمرة تعاون مع المتحف البحري في إطار اتفاقية بحث وتبادل الخبرات والتثمين الخاص بالتراث المغمور بالمياه الذي أصبح محل اهتمام وطني ودولي. ترأس الجلسة العلمية للملتقى الدكتور نجيب بن عودة، وكان أوّل المحاضرين، الباحثة لطيفة ساري من معهد ما قبل التاريخ والتاريخ وعلم الإنسان حيث قدّمت في عرضها المصوّر تاريخ الجزائر البحري الذي ظهر منذ فترة ما قبل التاريخ لتظهر فيما بعد ما عرف بالحضارة "الإيبيرية المغاربية" في الإطار المتوسطي، وتشهد بقايا تلك الفترة على النشاط البحري منها أدوات الصيد البدائية وكذا مغارات سكن الإنسان الأوّل قرب السواحل منها تلك الموجودة ببجاية وفي القالة. وكانت وسائل الصيد والتعامل مع البحر أكثر تطوّرا من أوروبا علما أن مناطق ساحلية لم تعد موجودة اليوم بعدما غمرتها المياه عبر آلاف السنين. كما قدّمت الدكتورة حفصة معروف من جامعة الشلف مداخلة عن "نظام المرابطة وحراسة السواحل في المغرب الأوسط خلال العصر الوسيط" شدّت بها الحضور وقالت إنّ البحر كان دوما يجلب الأعداء لذلك بنيت الأبراج والحصون والمنارات للمراقبة وعرفت بالرباطات بعضها موجود بوهران وزموري وجيجل وتنس وشرشال وندرومة ومستغانم وبجاية وعنابة وغيرها ومن يقومون بالحراسة يسمون الطلّاع وعند الخطر يشعلون النار أو يدقون الأجراس والطبول، ناهيك عن دوريات التجسس في مدن السواحل لترصد أخبار الأعداء أو السفن القادمة ولهؤلاء رواتبهم من الدولة. قدّم الدكتور بلقاسم عماج من جامعة تيزي وزو تدخّله الخاص بالأمفورات المحفوظة بالمتاحف ودورها في الحياة التجارية البحرية القديمة وهي عبارة عن جرار مختلفة تخزن فيها المواد الغذائية وترص بطريقة معينة في السفن كي لا تتهشم كما أن لها وزنها الخاص وترقيمها وما تحمل وانتقالها عبر البحر مجسد في فسيفساء كبيرة بتبسة وهذه الجرار هي بمثابة وثيقة تاريخية. أما حكيم طاهري من قسم الدكتوراه بجامعة الجزائر، فقدّم عرضا عن المراكز الصناعية بسواحل الجزائر وكانت بها صناعات مختلفة كالنسيج والبناء والزراعة والمعادن والعطور، وتنقل إلى المراكب مباشرة علما أنه كانت للجزائر أساطيلها قد يصل الواحد منها إلى 400 سفينة (العصر الوسيط). توالت المحاضرات منها محاضرة الدكتور لعرج داودي من جامعة البيض الذي تحدث عن المرجان وآليات استخراجه التي عرفت بها الجزائر منذ القدم وما نتج عن ذلك من اتفاقيات تجارية دولية ومن صناعات، أما الباحثة خيرة دربال فتناولت "التراث الثقافي الساحلي والمغمور بالمياه مدينة تنس نموذجا"، وقدّمت صورا وأبحاثا عن المناطق الأثرية بسواحل التنس التي تنتظر التدخل منها مغارات سيدي مروان الممتدة إلى البحر عبر المنحدرات وكذا المقابر الفينيقية قرب البحر والآثار المغمورة بميناء تنس بعضها استخرجه الصيادون كالقطع النقدية ال137 وأدوات الصيد لتبقى المدافع تنتظر. أما هيثم بوعزة فعرض ميناء موقع جنوة بعنابة والذي هو غير محمي، رغم ذكره من طرف الجغرافيين والرحالة منهم البكري، وأشار الباحث إلى أنّ هذا الميناء التاريخي محمي من التيارات البحرية وقام مع زملائه بإنجاز خرائط تقنية عنه علما أنه يعود للعهد الفينيقي ثم استغله الرومان في نقل الحجارة إلى وسط بونة العاصمة ثم استغله الايطاليون من جنوة في 1401ليسيطروا على تجارة عنابة ويفلسون أهلها بالغلاء والمجاعة، وشيدوا فيه الأبراج التي برعوا فيها وتصل ل20 مترا. تميزّت المناقشة بالثراء حيث تمت الإشارة إلى أن التراث البحري غالبا ما يتم ربطه بالفترة العثمانية وحدها لكن الجزائر عرفته قبلها بمئات السنين وكانت لها السطوة مما يستوجب المزيد من الدراسات.