استطاع نجوم السينما الجزائرية أن يخلّدوا ذاكرة الثورة بأدائهم الرائع، ليتحوّلوا إلى أبطال، علما أنّ أغلبهم كانوا مناضلين، وحتى جنودا في صفوف الثورة. وبقي التزامهم نحو هذا التاريخ ثابتا، انعكس في أدوارهم، فارتبطت أسماؤهم بأسماء الشهداء، والمناضلين، والبؤساء، وغيرهم من الجزائريين الذين أذاقهم الاستعمار المرَّ. لعلّ نظرة الراحل محمد زينات في وجه الضابط الفرنسي الذي التقاه صدفة بعد الاستقلال وأعادت الذاكرة، لا تضاهيها نظرة أخرى، جعلت من هذا الممثل والمناضل الكبير أيقونة في سجل الفن الجزائري، لم يتكرر مثيله إلى أيامنا. ويمكن تشبيه "تحيا يا ديدو" بدفتر ذكريات زينات، الذي أدى دور مجاهد يعيش الحاضر بألم الماضي، من خلال الأصوات والذكريات التي تطفو على السطح، لنسترجع معه جزءا من مساره الثوري والنضالي في صفوف جيش التحرير الوطني، والفرقة الفنية لجبهة التحرير الوطني، ويفضح جرائم المستعمر عبر مشاهد تعذيب المناضلين. لقد استطاع زينات بذكائه الفني، أن يحوّل فكرة إنجاز فيلم ترويجي قصير عن السياحة في الجزائر، إلى عمل روائي طويل، توزّعت فيه الأدوار، واختلطت مع عامة الناس في الشوارع لتشكيل قطعة موزاييك متعددة الألوان. فاسم الراحل زينات يعكس مبادئ الحرية والنضال. وتُعدّ رائعته "تحيا يا ديدو" ردا موجعا للمستعمر وأحفاده. كما تُعدّ تجربة سينمائية فريدة، استلهمتها عدّة أعمال سينمائية عالمية. محمد زينات عيّنة من جيل الفنانين الذين التحقوا بالثورة الجزائرية، والتزموا بقضية تحرير الوطن من الاستعمار الفرنسي، ولم يتردّدوا في دعم صفوف الفرقة الفنية لجبهة التحرير الوطني. وُلد الراحل بحي القصبة العريق سنة 1932؛ حيث نشط في صفوف حزب الشعب الجزائري، وأسّس فرقة "المنار الجزائري" . وقدّم بباريس مسرحية مقتبسة عن "البرجوازي النبيل" لموليير (1947)، قبل أن ينتقل إلى فرقة أخرى تحت لواء الكشافة الإسلامية الجزائرية. وأبهره ذات مرة فيلم "بي بي لو موكو" لجوليان دوفيفيه؛ فقد ترك لديه انطباعا مناهضا للنظرة الاستعمارية تجاه الشعب الجزائري. ووسط هذا الغليان في الحركة الثقافية والوطنية، التحق زينات بحركة انتصار الحريات الديمقراطية؛ حيث برزت حياته الفنية، وتعمّقت قناعته بأهمية النضال السياسي والكفاح المسلّح. ولم يتردّد زينات في الالتحاق الفعلي بصفوف الثورة؛ كضابط في جيش التحرير الوطني سنة 1958، ليصاب بجروح بليغة في إحدى مهماته. ويُنقل، إثرها، إلى تونس لتلقي العلاج. وقد شكّل هذا السفر الاضطراري منعرجا آخر في حياته بالتحاقه بالفرقة الفنية لجبهة التحرير الوطني في أبريل 1958؛ حيث أدى دور "لخضر" في مسرحية "الجثة المطوَّقة" لكاتب ياسين. وانتقل إلى برلين في 1959، ثم إلى ميونخ لتلقي تكوين في "كامرسبيل" ، وهي حركة سينمائية ومسرحية تعتمد على الأداء الدرامي الطبيعي. وشارك في تأسيس شركة "قصبة فيلم" بالجزائر رفقة المجاهدين ياسف سعدي وحبيب رضا. وفي 1965 تم توظيفه في الديوان الوطني للتجارة والصناعة السينماتوغرافية، وكان مساعدا للمخرج عمار العسكري. كويرات.. صورة حية للشهيد البطل عبّر الممثل سيد علي كويرات عن بطولة مليون ونصف مليون شهيد، ب"علي موت واقف" ، فكان رمزا لم يتبنَّه الجمهور السينمائي وحده، بل كلّ الجزائريين. ويُعدّ كويرات من الوجوه الفنية الجزائرية التي ترسّخت في أذهان جيل الاستقلال. والفقيد من مواليد 7 سبتمبر 1933 بالعاصمة. وشارك في عدّة روائع؛ منها "العفيون والعصا" للمخرج أحمد راشدي؛ حيث تقمّص دور البطل الشهيد. كما مَثّل الراحل دور البطل الذي لا يقبل المساومة ولا الاستسلام رغم تعرّضه للتعذيب البشع؛ ما أثار استغراب جلاّديه. كما عاش بطل فيلم "وقائع سنين الجمر" بعبقريته، مشاهد البؤس والثورة، معبّرا عن نضال الجزائريين الذين عاشوا ويلات المستعمر. والحال نفسها مع الراحل طه العامري، الذي عُدَّ من خيرة رجال الجزائر، مجاهدا خلال الثورة. وغالبا ما كان يؤدي دور المناضل الحكيم، الذي يزرع الوعي، ويواجه الخونة كما في دوره في "الليل يخاف من الشمس". وكان العامري من فناني الجيل الأوّل، ومن قامات المسرح، والسينما، والتلفزيون. وعُرف بنضاله في الحركة الوطنية. وكان عضوا بحزب الشعب الجزائري، وحركة الانتصار للحريات الديمقراطية، قبل أن ينضمّ للفرقة الفنية لجبهة التحرير الوطني بتونس في 1958. وشارك في العديد من المسرحيات التي ساهمت في التعريف بكفاح الشعب الجزائري في مختلف البلدان. وحين اندلاع الثورة التحريرية وبفعل نشاطه النضالي، نجا عام 1956 من متابعات السلطات الاستعمارية. وتمكّن من مغادرة الجزائر متوجّها إلى سويسرا بحجة القيام بدورة تكوينية في الميدان المسرحي. وهناك التقى المسرحي الراحل مصطفى كاتب، ليلتحق، بعدها، بالعاصمة التونسية، وينضم للفرقة الفنية لجبهة التحرير الوطني التي كان من مؤسّسيها عام 1958. وقد تميّز، خصوصا، بمشاركته في المسرحيات الثلاث التي ألّفها المرحوم عبد الحليم رايس "أولاد القصبة"، و"دم الأحرار"، و"الخالدون" . وبعد الاستقلال شارك في أفلام سينمائية شهيرة؛ منها "الليل يخاف من الشمس"، و"وقائع سنين الجمر"، و"المنطقة المحرّمة"، و"صراخ الحجر". ولا يمكن الجمهورَ أن ينسى البطل عبدالحليم رايس، الذي ما هو إلاّ صورة للجزائري الثائر في كل زمان ومكان، التحم بقضايا شعبه، وكان أحد مؤسسي الفرقة الفنية لجبهة التحرير الوطني. واشتهر بثلاثيته المسرحية "أبناء القصبة" (1959) و"دم الأحرار" و"الخالدون" (1961)، مدعّمة بمسرحية "الوصية" التي كُتبت مطلع سنة 1962. والتزم الراحل بمسرح المقاومة، ثم انتقل إلى الإذاعة، ثم إلى السينما، ليظلّ متمسكا في كل أعماله، بالأبعاد النضالية والاجتماعية. وكان معروفا بالإخلاص لأدواره؛ خدمةً للذاكرة. وقبلها خدمةً للدعاية للثورة؛ لذلك ظهر عملاقا في بطولته في "الليل يخاف من الشمس" و"العفيون والعصا" و"المفيد" ، وغيرها من الأعمال؛ منها، أيضا، فيلم تلفزيوني، أدى فيه دور الشهيد الذي يرى أثناء لحظاته الأخيرة، صورة للجزائر المستقلة. وحرص الفنان على أن يكون وفيا لدور الثائر المتمرّد. وماتزال أعماله بمثابة مدرسة ليس فقط للذاكرة، بل، أيضا، في التمثيل والأداء، علما أنّه كان له دوره الكبير في ميلاد مسرح المقاومة الوطنية عبر الكتابة الاستعجالية التي كانت تفرضها ظروف تلك المرحلة، ليؤسّس بذلك لنضال فني وفكري مواز؛ حيث منحت نصوصه بعدا جماليا وإيديولوجيا حقيقيا للفن الدرامي الجزائري. مصطفى كاتب.. نضال مستمر تخرّج الراحل مصطفى كاتب من مدرسة المسرح، وقبلها كان مولَعا بالثقافة والأدب والسياسة. بدأت الميول الفنّية للمسرح تظهر لديه (مولود سنة 1920)، بفضل جمعية "المزهر البوني" بعنابة، ليشاهد، بعدها، العروض المسرحية أثناء انتقال أسرته للعيش بالعاصمة. منها عروض رشيد القسنطيني. وحقّق الراحل شهرة كبيرة في الأربعينيات، ثم التفت للأعمال التي ترسخ الوعي الوطني؛ منها "الكاهنة" و"خالد" و"هنبعل" ، وغيرها من الأعمال التي تعكس توجّهات نضالية ووطنية. ويكبر طموحه الفني النضالي لإبلاغ العالم مأساة الشعب الجزائري، وفضح مساوئ الاستعمار الفرنسي. أما علال المحبّ فهو من مواليد العاصمة سنة 1920. بدأ مسيرته الفنية كممثل هاوٍ سنة 1939 مع فرقة مسرحية تابعة للكشافة الإسلامية الجزائرية. ومَثّل المحب في "العبد الأبيض"، و "عطيل" بالفرنسية والعربية. كما أجرى المحبّ دورة تدريبية بفرنسا التي هاجر إليها سنة 1955. وبعد الاستقلال التحق المحبّ بالمسرح الوطني الجزائري؛ حيث عمل ممثلا ومخرجا. كما شغل منصب أستاذ الفن الدرامي بالمعهد البلدي للتمثيل. وتخرّج على يده كوكبة هائلة من الفنانين. وبنى علال المحب تجربته على إرساء تقاليد وطنية مناهضة للنموذج الاستعماري السائد في الجزائر قبل الاستقلال. وكان من بين الأوائل في إحياء الأشكال التراثية، واستعمال عناصر من التقاليد الشفاهية والطقوسية. واعتبارا من عام 1971 انقطع علال عن المسرح ليتفرّغ للسينما؛ حيث اشتغل في عدّة أعمال سينمائية إخراجا وتمثيلا. وبالتزامن، واصل تدريسه في (الكونسرفاتوار). ونوّه كثيرون بجمع علال بين أخلاق المربي، وشاعرية الفنان، وصرامة المخرج. وارتبطت صورة الراحل بالمناضل الصارم حينا، وبضابط الشرطة الفرنسي المتعجرف في أحيان أخرى. وكانت وطنيته (كان في صفوف الثورة) هي ما دفعه لتقمّص هذه الأدوار باحترافية عالية. حسن الحسني صورة الفلاّح بامتياز كان الراحل حسن الحسني ولايزال أحسن من قدّم صورة الفلاّح الجزائري، خاصة في الفترة الاستعمارية، وما كان يلقاه من ظلم وقهر وعبودية، ليجسّد للأجيال ذلك الحماس، الذي ظلّ يقاوم إلى أن انفجر في ثورة نوفمبر، فكان الريف الجزائري بحق، حاضن الثورة ورجالها. وُلد حسن الحسني (بوبقرة) في قرية بالمدية سنة 1916. وعمل مسيّرا لقاعة سينما "ركس" بمدينة البرواقية، قبل أن يلتحق سنة 1940 بفرقة محيي الدين بشطارزي خلال جولة لها بالمنطقة؛ حيث تم اكتشاف موهبته وقدراته الفنية التي تستحق التشجيع. وكان "أحلام حسن" أول عرض مسرحي له سنة 1945؛ حيث كانت مسرحية ساخرة تشجب الاستعمار؛ ما أدى به إلى سجن بوسيي، ثم سجن بربروس. وفي سجنه ألّف الفنان عدّة سكاتشات، وعرضهم على المسجونين للرفع من معنوياتهم. وعند خروجه استقر بالقصبة بالجزائر العاصمة. استحدث حسن الحسني شخصية "نعينعة" في مسرحية "الحرية" التي أعاد أداءها في سنة 1950 تحت عنوان "المؤامرة"، ثم مسرحيته الشهيرة "تي قول أو تي قول با". وفي سنة 1953 دخل التلفزيون تحت إدارة مصطفى بديع في عرض "المتابعة" ، لينخرط في صفوف جيش التحرير الوطني عند اندلاع الثورة التحريرية. وعقب الاستقلال التحق بفرقة المسرح الوطني الجزائري. واتجه حسن الحسني إلى السينما، وأدى عدّة أدوار في أفلام؛ ما دعّمه في بلوغ قمة شهرته، من بينها "ريح الأوراس" و"حسن طيرو" لمحمد لخضر حمينة، و"زاد" لكوستا غافراس، و"أحلى الاعترافات" (1971) لإيدوارد مولينارو. كلثوم سيدة الشاشة الجزائرية أفنت السيدة كلثوم سنوات عمرها في خدمة الفن. كانت عميدة الممثلات الجزائريات، وبطلة أعمال مهمة في تاريخ السينما الجزائرية، ومنها رائعة "ريح الأوراس"، و"ديسمبر"، اللذان أخرجهما محمد لخضر حمينة. وكانت أوّل امرأة عربية تمشي على البساط الأحمر في أكبر المهرجانات السينمائية العالمية عام 1967 في مهرجان كان السينمائي، عندما تُوّجت برفقة المبدع لخضر حامينا، بجائزة كان السينمائية عن رائعة "ريح الأوراس".. كما كانت أول امرأة عربية تقف في دار الأوبرا بباريس في الأربعينيات. وجسدت معاناة المرأة الجزائرية إبان الاحتلال. كما جسّدت روحها التي ظلّت وفية لنوفمبر ومثله السامية في فيلم "ريح الجنوب" لسليم رياض. والتحقت كلثوم بجبهة التحرير الوطني مع اندلاع الثورة، لتعود بعد الاستقلال إلى العمل الفني برفقة أهم الأسماء الفنية الجزائرية آنذاك؛ مثل مصطفى كاتب، وعلال محبّ، وحاج عمر، ونورية، ورويشد الذي شكّلت معه ثنائيا فنيا رائعا، كما في "حسان طيرو". واستطاعت في عروضها أن تجمع حشودا من الجماهير، وبأرقام لم تحققها فنانة أخرى. رويشد.. حضور متفرد مستمَد من العفوية ترسّخ اسم الفنان الراحل أحمد عياد المعروف ب"رويشد" ، في ذاكرة الفن الجزائري بفضل ما قدمه من أعمال سينمائية خالدة، فجرت مواهبه. وساعدته عفويته وخفة روحه وكذا حضوره المتفرد المستمَد من عمق مجتمعه، في أن يتبوأ مكانة كبيرة لدى الجمهور. وتميّزت العديد من الأعمال المسرحية للراحل، بالروح الوطنية. ونظرا لانخراطه في النضال ضدّ المستعمر الفرنسي، فقد تم الزجّ به في سجن سركاجي بالعاصمة لمدة عامين ونصف عام، ثم بمركز اعتقال ببني مسوس لمدة ستة أشهر ما بين عامي 1956 و1959. موهبة هذا الفنان تجسّدت في السينما. وقد كان فيلم "معركة الجزائر" للإيطالي جيللو بونتيكورفو، أولى الأعمال التي شارك فيها. كما جسّد، ببراعة، العديد من نصوص أعماله المسرحية في أفلام سينمائية خالدة كان بطلها، من أشهرها "حسان طيرو" بمشاركة ألمع النجوم. وهي قصة حقيقية عاشها رويشد إبان الثورة التحريرية لما احتضن ببيته، المجاهد أحمد بوزرينة، الذي كان محل بحث من طرف السلطات الاستعمارية خلال إضراب 8 أيام. وأفلام أخرى لا تقل شهرة؛ منها "العفيون والعصا" لأحمد راشدي، و " هروب حسان طيرو" للمخرج مصطفى بديع (1974).