تواصلت "المساء" مع متخصّصين في الفن السابع من سيناريست ومخرجين ونقّاد لتطرح عليهم إشكالية "هل روّج الفن السابع لبطولات الثورة الجزائرية، أثناء الثورة وبعد الاستقلال، وهل ساهم في تثمين الذاكرة الوطنية؟"، فكانت ردود الأساتذة توفيق ذباح وعبد الكريم تازاروت والياس بوخموشة وجمال محمدي وياسين بوغازي كالتالي. توفيق ذباح: السينما الجزائرية وُلدت من رحم الثورة أشار الدكتور توفيق ذباح، صاحب مؤلّف "جماليات السينما الوثائقية، إضاءات فكرية ودراسات سيميلوجية" إلى مساهمة السينما منذ نشأتها الأولى بالجزائر في التعريف بالثورة والترويج لعدالة القضية الجزائرية، بل إنّها وُلدت من رحم الثورة، إذ أنّ أولى الأفلام السينمائية ظهورا تم تصويرها خلال فترة الثورة. وأضاف أنه تم إنجاز الأفلام الأولى التي نقلت يوميات المجاهدين في الجبال وشملت بداية تسجيلات لقطات لمعارك وكمائن جيش التحرير الوطني ضدّ العدو الفرنسي، وذلك بمساعدة بعض السينمائيين الأوربيين المساندين للثورة والمقتنعين بعدالة القضية الجزائرية من أمثال المخرجين روني فوتيي وبيار كليمون وغيرهما. كما تتّفق أغلب المراجع حول تاريخ السينما الجزائرية على أنّ أوّل تجربة للكاميرا الثورية كانت في شهر ديسمبر1956، حيث التحق المخرج المجاهد جمال شندرلي عن طريق تونس بالجبل كمراسل، وهو مجهّز بكاميرتين تمكّن بواسطتهما من التقاط أولى الصور لمواطنين ومجاهدين من القاعدة الشرقية وهم ينزعون اللباس المدني ويرتدون بدلات المجاهدين، يضيف الدكتور ذباح. وتابع مجدّدا أنّ هذا يعني أنّ قيادة جبهة التحرير الوطني أدركت منذ السنوات الأولى لاندلاع الثورة الدور الكبير والفّعال للسينما في التعريف بها وتدويل القضية الجزائرية. وقد أشرفت بعد ذلك الحكومة الجزائرية المؤقتة على تكوين مجموعة من المخرجين الشباب في الميدان وعن طريق إرسالهم للتكوين السينمائي ببعض الدول الاشتراكية من أمثال محمد لخضر حمينة وأحمد راشدي وجمال شندرلي، وكان من نتيجة هذه المرحلة إخراج عدّة أفلام تعبّر عن معاناة الجزائريين وقسوة الاستعمار الفرنسي، ومن هذه الأفلام "جزائرنا" و"ياسمينة"، "اللاجئون"، "ساقية سيدي يوسف"، "بنادق الحرية"، "صوت الشعب" و"عمري ثماني سنوات"، مشيرا إلى أنّ العديد من السينمائيين استشهدوا أثناء أداء مهامهم منهم محمود فاضل، معمر زيتوني، عثمان مرابط، مراد بن رايس...وغيرهم. كما أكّد الدكتور أنّ أغلب الأفلام التي تم إنجازها في تلك الفترة تمثّل أندر وأعزّ الشهادات التاريخية للجزائر أثناء كفاحها ضدّ الاستعمار، وقد ساهمت تلك الأعمال السينمائية في تحسيس الرأي العام العالمي بالأساليب القمعية للجيش الفرنسي من جهة وبعدالة القضية الجزائرية من جهة ثانية.وذكر محدّث "المساء" أنّه بعد الاستقلال واصلت السينما الجزائرية على نفس النهج، في نقل صور الثورة الجزائرية وتثمين الذاكرة الوطنية، وظهرت في هذه الفترة أفلام من نفس هذا "الريبارتوار" السينمائي، لكنّها أُنتجت بجودة أكبر وبتقنيات متطورة أكثر عن تلك التي أنتجت بها الأفلام الثورية. فعلى سبيل المثال لا الحصر، ذكر الدكتور عديد العناوين لأفلام سينمائية أنتجت في الستينات والسبعينات وكانت تمثل مرحلة نضج السينما الجزائرية على غرار فيلم "ريح الأوراس/محمد لخضر حمينة 1967"، وفيلم "الأفيون والعصا/ أحمد راشدي1970" وفيلم "دورية نحو الشرق/ عمار العسكري 1971".وأضاف أنّ السينما الجزائرية مرت بعدها بمراحل تنوّعت بين الاستفاقة والركود تماشيا مع الأوضاع العامة في البلاد، وتأثّرت بشكل خاص بالنظام السياسي القائم وطريقة إدارته لملف الثقافة بشكل عام وملف الصناعة السينمائية بشكل خاص، مشيرا إلى مواصلة السينما الجزائرية في الألفية الجديدة، في نفس المسار لكن بعناوين جديدة ومخرجين من الجيل الجديد، لكنها واصلت في نفس اتجاه دعم الثورة الجزائرية ونقل صورتها وأحداثها للجيل الجديد من الجزائريين ونقرأ في فيلموغرافيا هذه الفترة عناوين مثل "مصطفى بن بولعيد"،"العقيد لطفي" و"زبانا" وكلها أفلام اشتركت في نقل سير شهداء الثورة التحريرية والتعريف بهم للمشاهد الجزائري وحتى العالمي. عبد الكريم تازاروت: بإمكاننا إنتاج مزيد من الأفلام الثورية قال الكاتب عبد الكريم تازاروت ل"المساء" إنّه تناول في كتابه "السينما الجزائرية والحرب التحريرية" الذي نشره عام 2023 عن المؤسسة الوطنية للاتصال، النشر والاشهار، نفس القضية موضوع الإشكالية التي أثارتها "المساء"، ليشير إلى وجود عدد قليل من الأفلام المخصّصة لثورتنا المجيدة لا تزال تثير إعجاب وفضول المجتمع الدولي.وأضاف أننا أنتجنا من عام 1965 إلى عام 1976 عشرات الأفلام التي تستحضر حرب التحرير الوطني مع الشعب كبطل فقط، ثم لا شيء، وكان من الضروري انتظار عام 2009 لمشاهدة الأفلام التي يحمل فيها البطل اسما وسيرة ذاتية مخصّصة للتاريخ مثل "بن بولعيد" و "كريم" و"لطفي" لأحمد رشيدي و "زبانة" لسعيد ولد خليفة و"بن مهيدي" لبشير درايس ثم أفلام أخرى مثل "هيليوبوليس" و"دزاير"، معتبرا أنّ ذلك غير كافٍ مقارنة بالولايات المتحدةالأمريكية التي أنتجت أكثر من مئتي فيلم حول الحرب العالمية الثانية وحرب الفيتنام، في حين أنتجت فرنسا أكثر من مئة فيلم حول الحرب العالمية الأولى.وامتعض المتحدّث من الأصوات الجزائرية التي كانت تردد مقولة "لا مزيد من أفلام الحرب" وهو ما اعتبره "غير طبيعي"، وفي هذا قال "كان علينا تمجيد ومواصلة تخليد ذكرى شهدائنا، المشكلة هي أنّ رصيدنا من الأفلام ضعيف، لهذا السبب يعتقد الجزائريون أنّ هناك الكثير من الأفلام حول الحرب، هذا خطأ بل خطأ فظيع، فهناك أفلام جزائرية قليلة تتم بنوعية سينيماتوغرافية جيدة مثل فيلم "ريح الأوراس" وفيلم "وقائع سنين الجمر" الذي تحصّل على السعفة الذهبية بمهرجان كان السينمائي عام 1974، وكذا فيلم لحمينة بعنوان "ديسمبر" وفيلم "دورية نحو الشرق" لعمار لعسكري، وفيلم " الأفيون والعصا" لأحمد راشدي وفيلم "معركة الجزائر" لجيلو بونتيكورفو، إنه عدد ضئيل من الأفلام مقارنة بثورتنا، لكنه لم يفت الأوان بعد لإنتاج أفلام ثورية أخرى لأنّ مآثر الحرب موجودة في كل مكان في بلدنا الواسع المسقي بدماء الشهداء". الدكتور إلياس بوخموشة: الفن السابع أسهم في الدفاع عن حق الجزائريين ذكر مدير المعهد الوطني العالي للسينما، الدكتور الياس بوخموشة أنّ الفيلم السينمائي لا سيما الوثائقي أسهم في الدفاع عن حق الشعب الجزائري في الاستقلال، حيث كانت الدعاية الفرنسية، بما سمي لاحقا ب"السينما الكولونيالية" مهيمنة على القاعات السينمائية في الجزائر المستعمرة وخارجها، فجاء الفيلم التسجيلي "الجزائر تحترق" ليقول لهيئة الأممالمتحدة الناشئة آنذاك "الجزائر ليست بخير، هناك مستعمر غاشم يبيد ساكنتها ليجعل المعمر أكثر نفيرا"، وأظهر الفيلم معاناة شعب، وجرائم حرب وإبادة جماعية في مناطق نائية، مقابل نبل المجاهدات والمجاهدين في الجبال. وأضاف الدكتور ل"المساء" أنّ صنّاع الأفلام الثورية كانوا شبابا من الجزائريين وآخرين من أصدقاء الجزائر أمثال الشهيد جمال شندرلي، ومحمد لخضر حمينة، وأحمد راشدي، وروني فوتيي، وبيار كليمون، وغيرهم ممن ذكرهم التاريخ، وآخرون غيّبتهم ظروف الحرب وقساوتها. وقال المخرج إنّه بعد الاستقلال مباشرة جاءت أفلام مثل "معركة الجزائر" و"دورية نحو الشرق" و"ريح الأوراس" وغيرها من الأفلام التي مجّدت الثورة وبيّنت للعالم عبر رحلة الأفلام للمهرجانات وغيرها، كيف عانى الشعب وكافح من أجل استقلاله، إذ لا يوجد بلد عربي ولدت السينما فيه من رحم الثورة وتحت الاستعمار سوى الجزائر وفلسطين. كما أشار الناقد السينمائي إلى ظهور موجة أخرى من الأفلام بعد العشرية السوداء أسالت حبر النقّاد ومراجعي الأفلام، وهي أفلام السير الذاتية أمثال "بن بولعيد" و"أحمد زبانة" و"العربي بن مهيدي" إذ بدأ التساؤل يشقّ طريقه نحو رفع مستوى الخطاب السينمائي، والخطاب عن الفيلم، حيث تنتهي حدود الواقعة التاريخية لتبتدئ الرواية الفنية؟ وهل يحقّ للفنان إعادة كتابة السير الذاتية للشهداء؟، ليأتي قانون السينما المعاصر للبحث عن حلّ يروي عطش الفئتين. جمال محمدي: السينما الجزائرية وفية لطابعها التوثيقي والواقعي قال الكاتب والناقد السينمائي جمال محمدي إن الصورة وحرب الصورة كانتا أحد خيارات جيش وجبهة التحرير الوطني لأجل إسماع صوت الثورة الفتية ونشر الوعي العام المحلي والدولي بالخصوص وتطبيقا لتوصيات مؤتمر الصومام، مضيفا أنّ الحكومة المؤقتة لم تدخر جهدا من أجل خلق جبهة أخرى سلاحها الصورة وبندقيتها الكاميرا، حيث وقفت عدسات الكاميرا جنبا إلى جنب مع فوهات بنادق المجاهدين لتكون صوت القضية الجزائرية بالصوت والصورة، ليتمكن هؤلاء السينمائيين من إيصال القضية الجزائرية إلى أروقة الأممالمتحدة، بفضل ما أنتجوه من أفلام توثيقية. وتابع صاحب كتاب "القصبة في السينما. قرن من التصوير" أنه على الرغم من طابعها الصناعي والتجاري إلا أن السينما الجزائرية ظلت وفيه لطابعها التوثيقي والواقعي ولازالت تلعب دورها الريادي في تثمين الذاكرة وتعتبر أحد ركائز ودعائم الهوية الوطنية وأحد أوجه هذا التعبير من خلال المواضيع الفنية والثقافية والإبداعية التي يسعى السينمائيون الجزائريون إلى تناولها وجعلها تيمة أساسية في أفلامهم، وهم واعون بحرب الصورة لصيانة ونشر التاريخ الوطني بكل أبعاده ومقوماته الهدف منه تشكيل الوعي الوطني لدى الأجيال، من خلال الأفلام والأشرطة الوثائقية والنصوص السينمائية التي تتناول في مجملها مواضيع تاريخنا الوطني وذاكرتنا الجمعية النضالية عبر السينين، لاسيما ما تعلق منها بالترويج للثورة بإنتاج أفلام تمجد وتروي بطولات الشعب الجزائري إبان فترة المقاومة و الحركة الوطنية وثورة أول نوفمبر المجيدة، يضيف المتحدّث. ياسين بوغازي: للصورة أهمية بالغة في تثمين الذاكرة الجزائرية اعتبر الكاتب والسيناريست ياسين بوغازي أن الفن السابع هو الأكثر تأثيرا والأوسع انتشارا في ايصال القيّم والمعايير الثورية والمشاعر الوطنية للأجيال، لأن السينما تحرك القناعات وتحدد وجهات النظر، لذا تعطى اهمية قصوى في وقتنا الراهن بل تدار وفق رؤية استشرافية لعدة مسائل. وتابع صاحب مؤلف "كلام في السينما والدراما" أنه فيما يتعلق بنا كجزائريين، يمثّل الفن السابع أحد أهم التحديات في تثمين الذاكرة الوطنية والتاريخية، مضيفا أنّ ما تنتجه على سبيل المثال وزارة المجاهدين وذوي الحقوق من سلسلة الأفلام التي أطلق عليها المتحدّث اسم "الأفلام النوفمبرية" فيما سماها الآخرون الأفلام الثورية، تعدّ ثمرة هذا الإدراك الجزائري الحكومي حول أهمية الصورة والصوت والسينما عموما، لأنّه إذا لم ننتج أفلامنا التاريخية والنوفمبرية والثورية، فكأنّنا تركنا هذه المهمة لأناس سينتجون هذه الأفلام وفق مآربهم ورؤاهم. وعاد المتحدّث ليؤكّد الأهمية البالغة للفن السابع والدراما والمسرح والأغنية في تثمين الذاكرة الجزائرية بلغة الأجيال وعبر الصبغة الاكثر تأثيرا فيهم .