نظّم المجلس الإسلامي الأعلى، أوّل أمس، ندوة فكرية بعنوان "الأمير عبد القادر الإنسان والسياسي" ؛ إحياءً للذكرى 192 للمبايعة الثانية للأمير، تم فيها استعراض الجوانب الإنسانية التي سبق فيها الأمير عصره، والتزم بتطبيقها حتى مع أعدائه؛ ما جعل منه رمزا لمبادئ حقوق الإنسان والحرية إلى يومنا. قدّم البروفيسور عبد القادر بوعرفة من جامعة "أحمد بن بلة" بوهران، مداخلة عن "البعد الإنساني في أفعال وكتابات الأمير" ، مستندا على بعض النصوص، ومستهلا تدخّله بتعريف الإنسانية. ثم انطلق في الحديث عن الأمير الذي اتُّهم في حياته تماما كما اتُّهم الفكر العربي والإسلامي بأنه يعادي النزعة الإنسانية. لكن الأمير عُرف بإنسانيته المستمَدة من التراث العربي الإسلامي وهو يحارب جيوش الاحتلال الفرنسي منذ عام 1832 إلى غاية 1847؛ حيث كان يحرص على الأبعاد الإنسانية حتى في المعارك، وبعد هجرته نحو الشام، مضيفا أنّ الأمير عبد القادر أعطى من خلال مواقفه وكتاباته، مثَلا حيا، وتجربة تاريخية عن الإنسان المتجذر في إنسانيته. النزعة الإنسانية من جوهر الثقافة الإسلامية كما أبرز المتدخّل أن مرجعية النزعة الإنسانية عند الأمير عبد القادر، هي الثقافة الإسلامية المستمَدة من القرآن العظيم. وتُعد هذه النزعة، حسبه، حكمة عملية قبل أن تكون نظرية؛ نجدها في الفعل قبل النص، مشيرا إلى أنّ الأمير كان أكثر إنسانية. وكان يؤكد على ضرورة العيش المشترك في سلام للبشر، والتعايش فيما بينهم. ووقف البروفيسور عند جانب المصطلحات المستعمَلة عندنا؛ منها "المقاومة الشعبية" . والأصح أن تكون "الجهاد الشعبي" . كما إنّ مصطلح الإنسانية في ثقافتنا وديننا هي مقام الإحسان، مطالبا برد الاعتبار والذكر للأبطال والمصلحين والعلماء، وهم الذين سمّاهم " الرأسمال الرمزي والمعنوي ". واستحضر المتدخّل مقولة للراحل مالك بن نبي، حين أشار إلى أنّ كلّ إنسان في أوروبا هو إنسان، أما البشر في خارجها فهم مجرد أهالٍ، وعبيد لا قيمة إنسانية لهم، وأن الشعوب غير الأوروبية (الرجل الأبيض) هي شعوب همجية. وتناول، بالمقابل، شخصيتين عاصرتا الأمير وكانتا عقل فرنسا الاستعمارية، وهما ألكسيس طوكفيل الذي دعا في تقاريره، إلى تطهير عرقي للجزائريين، وأن يباد الإنسان، والمحصول، وتُقتل الخيول مع تهجير القرى، والمزيد من المجازر للترويع. والشخصية الثانية هي ريناك، الذي رأى أنّ الرجل الأبيض هو السيد، والأصفر هو الصانع، والأسمر هو المزارع، والأخيرين هما عبدان للأوّل الأوروبي. وقد أجاز في كتابه "سيكولوجية الاستعمار" ، جواز استعمار كلّ ما هو خارج فرنسا. وأمام هذه العنصرية كان الأمير يؤمن ويثمّن المشترك الإنساني، ووحدة القيم والمصير مع التضامن بين بني البشر. وسجّل أفكاره ومبادئه في كتبه؛ منها "المواقف" ، و"ذكرى العاقل" ، ومركّزا على وحدة الغاية الإنسانية، وعدم التمييز بين المرأة والرجل، مع اعتماده على القرآن العظيم في ما تعلّق بالكلمة السواء التي تجمع البشر، وبالتالي تجاوز الغرب حتى في قانون الأسير. وطبّق الأمير هذه المبادئ في حياته وأفعاله؛ حيث قسّم الخير الذي بيده بين المسلمين والمسيحيين. ونصرَ المظلوم حتى ولو كان من غير دينه، كما حدث مع مسيحيّي الشام، وكذا تميّزه بفكرة التعايش المشترك، وحماية الحقوق، وتجاوز التسامح الذي يعني عند الغرب تنازل الضعيف للقوي، إلى العفو الذي يعني في الإسلام، العفو عند المقدرة. وبالنسبة للجهاد، كان عند الأمير عبد القادر مكروها وليس غاية، بل هو لردع الفساد والخراب، ولإقامة الحق. كما توقف المتدخل عند ثقافة وفكر الأمير، الذي تأثر بالعادات والتقاليد الاجتماعية الجزائرية، وبالتصوف مع محيي الدين بن عربي. وفي الأخير دعا إلى تثمين هذا التراث الإنساني، وتبليغه للأجيال من خلال المنظومة التربوية. مشروع بناء الدولة الجزائرية بدوره، أكد الدكتور محمد بن جبور من جامعة وهران في مداخلته "مبايعة الأمير الثانية ومشروع بناء الدولة الجزائرية" التي انطلق فيها من مرحلة الفراغ الذي تركه الداي حسين بعد دخول فرنسا العاصمة ثم توسّعها حتى بلوغها وهران، أن كلّ الظروف هيّأت الأمير لأن يتسلّم القيادة نحو الجهاد، وتأسيس الدولة الجزائرية. وتحدّث الأستاذ بن جبور عن دور الأمير عبد القادر عقب مبايعته، في توحيد القبائل الجزائرية لمواجهة المحتل. واعتمد الأصالة والمعاصرة في تأسيس الدولة، خاصة منها العصب، وهو الجيش (مشاة وخيالة ومدفعية). وقسّم الجزائر إلى 8 ولايات عليها خلفاء. واستعان بخبراء من إسبانيا والبرتغال، ناهيك عن العمل الديبلوماسي، والنظام القضائي، والاقتصاد. للإشارة، شهد النقاش عدّة تدخلات، منها كلمة عميد جامع الجزائر الشيخ محمّد المأمون القاسمي الحسني، الذي قال: " ما أحوجنا لمثل هذه الذكريات للتعريف برجال الأمة للأجيال، كأمثلة حية! "، مشيرا: " من أراد أن يتعرّف على الإسلام فليقرأ سيرة الأمير عبد القادر " . وذكر أنّ اسمه لايزال يتردّد في بعض المحافل الدولية؛ منها مؤتمر حضره بإسطنبول في 2012.