الأسرة هي البيئة الأساسية التي ينشأ فيها الطفل، ما يجعلها المسؤول الأول عن تكوين شخصيته وتوجيه سلوكه، من خلال عملية التنشئة الاجتماعية، ومما لا شك فيه أن الأسرة الجزائرية على غرار العديد من الأسر في مختلف المجتمعات، أصبحت تواجه تحديات صعبة تتمثل في التغيرات والتطورات المتسارعة في حياة المجتمع، نتيجة للثورة العارمة في مجال الاتصالات والمعلومات وتعقيدات الوسط الحضري.. ما يدعو إلى التساؤل هل بقي مجال للتواصل بين أفراد الأسرة الجزائرية.. وهل هناك حيز زمني للجلسات العائلية التي تعد فرصة ثمينة للتطبيع الاجتماعي؟ عندما نطلب من أي شخص أن يصف والديه أو باقي أفراد الأسرة، فإنه يصف الجانب الفيزيولوجي بسهولة، لكن قد لا تكون الإجابة بتلك السهولة لما يتعلق الأمر بنمط التفكير، خصائص الشخصية ومدلولات الإيماءات وما إلى ذلك من الأمور التي يعتمد في معرفتها على مدى التفاعل داخل الأسرة.. ولقياس درجة سيادة هذا الأخير في الأوساط العائلية الجزائرية استطلعت "المساء" آراء بعض المواطنين... وفي هذا الشأن يقول السيد "عصام. ل" موظف في مؤسسة عمومية: "صراحة أصبحت الاستجابة لمتطلبات التفاعل الأسري غاية صعبة المنال في ظل تعقيدات الحياة، لا سيما ما يتعلق بظروف العمل المتعبة، والتي تفرض على الوالد الخروج في ساعة مبكرة والعودة في ساعة متأخرة يستعد فيها الأبناء للنوم، وهو حالي شخصيا وأمام هذا الحال أجدني في مواجهة السؤال القائل: مع من أتحاور؟ الحقيقة أنني لا أجد إلا فرصا قليلة للتواصل والتحاور مع أفراد أسرتي، فرغم أني واع بضرورة التفاعل الأسري إلا أن الظروف أقوى مني.. وأعتقد أن المشكل المطروح في هذا السياق والذي ينبغي أن يأخذه المختصون بعين الاعتبار، هو هل أن ظروف الحياة العصرية وتعقيداتها هي السبب في تقلص حجم التواصل واللقاءات بين أفراد الأسرة أم أننا نفتقر في مجتمعنا إلى ثقافة التحاور والاتصال، خاصة وأننا نلاحظ أن العديد من أمهات اليوم أوكلن مهمة التحاور مع الأبناء للتلفاز رغم أنهن ماكثات بالبيت؟ ". أسر لا تجمعها إلا مائدة العشاء! أما السيدة "فهيمة. م" عاملة فتصرح: "نظرا لكوني متعلمة فإني أسعى جاهدة رغم الإرهاق لأعوض ابنتي عن ساعات الغياب، من خلال التحاور وتوجيه سلوكاتها بعيدا عن العصبية التي قد تؤثر على علاقتي بها مستقبلا وعلى تكوين شخصيتها أيضا، فأنا من خلال التواصل معها أحاول تفادي حرمانها من الإشباع العاطفي، والحرص على اكتسابها لغة التحاور التي لم تكن سائدة في وسطي العائلي.. فقد عشت في وسط لا تجمعه سوى مائدة العشاء في معظم الأحيان وأجواء تتميز بالنقاشات الحادة البعيدة عن أساليب التفاهم ". من جهتها، تقر الآنسة "نجية. ط" متخرجة من مركز التكوين المهني للسمعي البصري، بأنها عاشت في وسط أسري لا يخلو من التواصل، ولهذا تعرف جيدا نمط تفكير مختلف أفراد أسرتها، بل يمكن أيضا أن تتنبأ بما يدور في رؤوسهم قبل أن يتفوهوا من خلال قراءة حركاتهم وإيماءاتهم.. وتضيف: "لكن ما ألاحظه هو أن معظم شقيقاتي المتزوجات يفتقرن إلى لغة التحاور مع الأبناء، حيث يتعاملن معهم بواسطة التأنيب والصراخ بسبب بعض ضغوطات الحياة، وهو أمر مؤسف لأنه سيلقي حتما بسلبياته على شخصية الأبناء ". "رغم ضغوطات الحياة، أحاول أن أقتطف من اليوم ولو مدة 10 دقائق لمجالسة بناتي والدردشة معهن، لأعرف بطريقة غير مباشرة ما يخطر ببالهن من أفكار".. ذلك ما يؤكده"جمال. م"، الذي يضيف: "أطرح عليهن أسئلة بطرق غير مباشرة حتى لا يشعرن بأنني أقوم بدور المحقق معهن، وذلك بغرض توجيه سلوكاتهن واكتشاف الصعوبات التي تواجههن، وهذا أمر ضروري للحفاظ على مشاعر الاحترام والود والمساعدة في الوسط الأسري ولمواجهة أزمة الاتصال بين أفراد الأسرة الموروثة من المجتمع التقليدي". وبرأي الإعلامي "سفيان. ت"، فإن عدة متغيرات تقف وراء تقلص مساحة التفاعل الأسري خاصة في الأوساط الحضرية، منها ضيق المسكن الذي يكرس انعدام فرص اللقاء بين أفراد العائلة، عمل الوالدين ومصاعب الحياة اليومية التي تجعلهما في سباق مع الزمن مقابل كثرة وسائل الإعلام والاتصال التي تدخل الأفراد في عالم العزلة النفسية.. إلا أن الملفت في هذه المسألة، هو أن هذه المتغيرات ليست سوى عوامل ثانوية تضاف إلى المشكل الرئيسي المتمثل في غياب ثقافة الاتصال على مستوى الأسرة الجزائرية. صعوبات الحياة في الوسط الحضري وفي هذا الإطار، توضح دراسة سوسيولوجية أنجزتها مجموعة من الأساتذة الجزائريين حول واقع الأسرة الجزائرية، مفادها أن صعوبات الحياة اليومية التي تواجهها الأسرة في الوسط الحضري تؤثر على وظيفتها الأسرية، كظروف الأب المهنية، غيابه عن الأسرة، تعدد أدوار الوالدين، صعوبة التنقل وصعوبة الحصول على الخدمات، حيث أنها تؤدي في مجملها إلى التقليل من فرص التفاعل الداخلي بين أعضاء الأسرة، أي من المدة الزمنية الذي يقضيها الآباء مع أبنائهم في الحياة الأسرية سواء داخل البيت في ممارسة أنشطة مختلفة معا كالقراءة والتسلية وممارسة بعض الأعمال جماعيا، أو خارجه كزيارة الأقارب والتنزه وغيرها من مظاهر الحياة الاجتماعية التي تعتبر فرصا ثمينة للتربية المباشرة وغير المباشرة. وحسب معدي الدراسة، فإن التفاعل قائم على الحياة الاجتماعية والمشاركة، ومن مؤشراته وعوامله تناول الطعام على مائدة واحدة والجلسات الأسرية اليومية وفي المناسبات، وكلما زاد زمن اللقاء الاجتماعي زادت فرص التفاعل الاجتماعي التي يتم من خلالها التعبير عن المشاعر وتبادل الرأي في أمور خاصة بالبيت، عندئذ يتعرف الابن على مشاغل والديه واهتمامات أسرته ويتعرف الأب هو الآخر على هموم أبنائه وعلاقاتهم الخارجية ومشاكلهم. وتؤثر في التفاعل عوامل كثيرة أهمها الوقت المتاح للتفاعل، فقد يكون وقت اللقاء كبيرا لكنه خال من التفاعل إذا تم استنزافه في مشاهدة برامج التلفاز أو بسبب سوء التفاهم الداخلي أو انشغال كل فرد بمهمته، مما يحول الأسرة إلى قوقعة فارغة. وتبين الدراسة أن أكثر من ثلث الآباء يغيبون عن بيوتهم بسبب أنشطتهم الخاصة، ومعظم الغيابات تحدث بشكل متكرر أسبوعيا لأسباب متعلقة بأعمالهم الرسمية وبأنشطتهم الشخصية، وبالتالي تنعكس الضغوطات المهنية من خلال الغيابات المتكررة عن البيت على العملية التربوية، بمعنى أنها تقلل من الاطلاع الدائم على أنشطة الأبناء مثل متابعة دروسهم. ويمثل الجلوس إلى مائدة الطعام بالبيت، أهم الفترات السانحة التي يلتقي فيها عادة الآباء بالأبناء، وتشكل وجبة العشاء أهم مناسبة يلتقون فيها ثم تأتي وجبة الفطور في المرتبة الثانية، أما اللقاء في وجبة الغذاء فهو نادر بسبب ظروف العمل وظروف المواصلات. كما تبين أن الأولياء ولا سيما الذين يزاولون نشاطا رسميا، يعانون من جهد التنقل والمواصلات الذي يستغرق أكثر من ساعة عند الأغلبية، وهذا على حساب الوقت الحر والراحة البدنية المفترض توفيرهما للاهتمام بالبيت والأسرة وللتفاعل مع أعضائه. تأثير التربية التقليدية وأكدت دراسة ميدانية أجراها الأستاذ عبد النور أرزقي، أستاذ مختص في علم النفس بجامعة تيزي وزو، أن الأسرة الجزائرية تعاني من نقص الاتصال باعتبار أن الحوار قليل والعلاقة مع الأبناء غير مبنية على التبادل. وتوصلت الدراسة التي شملت 100ولي من تيزي وزو، إلى أن 60 في المائة من أفراد العينة يتناولون الوجبات بشكل فردي، رغم أن معظمهم ذوو مستوى تعليمي عال، كما أن 77 في المائة يهتمون بالنزهات العائلية من أجل الفسحة وليس الحوار. وفيما يخص علاقة الولي بباقي أفراد الأسرة، أظهرت النتائج أن 60 في المائة لا يهتمون بالاستشارة، حيث يعملون على حل مشاكلهم المهنية بمفردهم. أما فيما يتعلق بطبيعة المواضيع التي تتم مناقشتها في الوسط الأسري، فقد تبين أن المواضيع الاجتماعية تحتل المرتبة الأولى ثم تليها السياسية فالرياضية والثقافية، مما يشير إلى قلة نسبة التحاور. وترجع أسباب قلة الحوار حسب معد الدراسة، إلى غياب ثقافة الاتصال وتأثير التربية التقليدية التي تورث الخجل والتردد، انخفاض المستوى التعليمي الذي يحول دون إدراك أهمية الحوار، إضافة إلى الضغط المهني وبعض المشاكل الاجتماعية والاقتصادية والتي تؤدي إلى زيادة العصبية وعدم تحمل الحوار.