شهدت العقود الماضية تغيراً جذرياً في أنماط الأمراض وانتشارها بين أفراد المجتمع من الأمراض المعدية، إلى الأمراض المزمنة لا سيما تلك التي يعرف عنها بأمراض النمط المعيشي كأمراض الضغط والقلب والسكري.. وكثير من هذه الأمراض إنما هي نتيجة لسلوك خاطئ، ومن هنا فإن التثقيف الصحي أساسي للوقاية من هذه الأمراض فمن خلاله يتم الارتقاء بالمعارف والمعلومات وبناء التوجهات وتغيير السلوكيات الصحية والارتقاء بالمستوى الصحي للفرد والمجتمع. لقد أحدثت التطورات الهائلة في مجال العلم والتكنولوجيا ووسائل الإعلام تغيراً نوعياً في كيفية نقل المعلومات وعرض الأحداث بطريقة مباشرة وسريعة، مما كان له الأثر البالغ في تحديث البرامج الثقافية بشكل عام، والصحية منها على وجه الخصوص، ولكن الملاحظ أن الناس بمجتمعنا يجهلون أو يتجاهلون الجوانب الصحية عموما إلا في حالات تتعلق بإصابتهم بمرض ما أو التخوف من الإصابة بعدوى مرض ما، مثلما حدث مؤخرا مع جائحة أ/اتش1ان1 التي استنفرت اهتمام العام والخاص، وبلغ الاهتمام بغسل اليدين مداه، ولكن ما السبب في تراجع الوعي الصحي في مجتمعنا؟ وما مدى مساهمة الإعلام في نشر الثقافة الصحية بين الأفراد؟ وهل تقع مسؤولية التربية الصحية على الأسرة فقط؟ بعض الأمراض تدرج في خانة الفضائح! إن غياب الوعي الصحي عند الأهل سوف ينعكس بصورة أو بأخرى على صحتهم وصحة أفراد أسرتهم باتباعهم لسلوك حياتي لا تراعى فيه القواعد الصحية، فلا تزال هناك أسر تصنف بعض الأمراض على أنها فضائح فتلجأ لإخفائها ومنها الأمراض النفسية على أنواعها، ثم تأتي بعد ذلك الأمراض التناسلية، ثم الأمراض المعدية وكذلك أمراض القلب والسكري وغيرها، ويظهر هذا التكتم على تلك الأمراض في حالات التقدم إلى الخطبة فنرى كثيرين من الأهل لا يفصحون بهذه الأمور، وتفاجأ الزوجة بمرض زوجها بعد وقوع الفأس على الرأس كما يقال، وليس عليها إلا الصبر واحتساب الأجر على الله أو أن يتفاجأ الزوج من جهته بمرض زوجته فتبدأ المشاكل التي تنتهي غالبا بالانفصال وتفكك الأسر، وهذا يرجع أساسا إلى النظرة السلبية التي ما تزال مرسخة لدى شريحة واسعة من مجتمعنا من منطلق "عيب وعار" أن يتم "فضح" أمر هذا أو تلك لكونه مريضة أو الأخرى مصابة بمرض تنفسي أو عيب خلقي، وهذا سببه قلة الوعي بمجتمعنا ليس فقط فيما يخص الثقافة الصحية وإنما تراكمات الأفكار البدائية التي تتحكم في تصرفات الناس. تقول السيدة أمال أستاذة مادة الإعلام الآلي بإحدى ثانويات العاصمة إن العادات الصحية الصحيحة غير متوفرة إطلاقا في مجتمعنا، إذ أن نسبة كبيرة من الناس لا تتوجه إلى الطبيب إلا في الحالات الخطيرة، بالمقابل فإن الصيدليات تشهد توافدا مستمرا من طرف مواطنين يعتمدون اقتناء أدوية دون وصفات طبية وهذا بحد ذاته خطر على الصحة، فحتى الصيدلي نفسه لا يقدم نصائح في هذا الصدد، كذلك لا يقدم الفرد على اتباع النصائح مهما بدت مهمة لصحته مثل تجنب الأطعمة السريعة لما لها من تأثير سلبي على الصحة العامة وكذلك نظافة المحيط وهو ما لا نراه في حياتنا اليومية. تجزم محدثتنا أننا كجزائريين لسنا متأصلين بآليات صحية، وبمجرد السماع بعدوى ما تحيى بدواخلنا هبة صحية تتلاشى بعد مدة زمنية معينة، وفي اعتقادها فإن مسألة التثقيف الصحي لا يمكن حصرها في زاوية واحدة، وإنما هي منهج تربوي كامل ومتكامل. وتجزم السيدة يعقوبي موظفة في الجزائرية للمياه من جهتها بوجود وعي صحي بمجتمعنا ولكنه ناقص "لا نرى دورا كبيرا للجمعيات التي يوكل إليها دور الإعلام والتحسيس، صحيح أن المجال حاليا مفتوح لكل من يرغب في التثقيف في أي مجال، ولكن من أين لنا الوقت لذلك، فنحن مجتمع شفهي بالدرجة الأولى ولا نهتم كثيرا بالمكتوب، ولا أنكر أن قنوات الإعلام كثيرة مثل الفضائيات والانترنت، ولكننا لا نهتم بتاتا بالمعلومة الصحية، ما يهمنا كأمهات هو صحة أطفالنا، قياس الحمى، مراقبة الوزن العام، الاهتمام بأكله ولبسه وما عدا ذلك نعتبره من الكماليات وهذا في حد ذاته خطأ.. نحن نعلم ذلك وندرك خطأنا ولكننا لا نسعى لتغيير سلوكنا للأسف". مصدر الأمراض.. القضاء والقدر من جهة أخرى يحدثنا أحد الخبازين في الموضوع فيقول بصراحة كبيرة "نحن المواطنين لا نهتم عموما بصحتنا ولا حتى بما يمكننا من تفادي بعض الأمراض أي الوقاية بشكل عام، ونرجع كل ما يلحق بنا من ضرر أو مرض بكلمة المكتوب.. كل شيء نرجعه إلى القضاء والقدر وهذا عيبنا، لا نأخذ احتياطاتنا ولا نهتم بصحتنا، وإذا أصابنا مرض نلوم أنفسنا، وإذا مرت العاصفة نقول هذا ولا أكثر. نحن اتكاليون ولا بد من تغيير الذهنيات". وعن مدى وعيه بما يمكّنه من تفادي بعض العدوى أو الأمراض يجيب المتحدث "أكذب على نفسي إذا قلت إنني اهتم بصحتي، لأني غائب عن المنزل طوال اليوم، وأضطر للأكل في المطاعم أو محلات الفاست فود، وهذه الأطعمة في حد ذاتها خطرة على الصحة، واعتقد أن هذا حال الأغلبية، إذ أني أرى الزبائن بالمخبزة من كل الأعمار والشرائح، ومنهم من يأتي مع أولاده، وأصدم لرؤيتي لمظهر بعضهم واتساخ ملابسهم وأيديهم، فعند منتصف النهار لا يهم أي شيء أمام الأكل، بل يهون الوسخ أمام جوع البطن". وفي موضوعنا دائما تقول صيدلية إن الثقافة الصحية تغيب لدى فئة من المجتمع وتحضر عند أخرى، إلا أنها تعتبر أن أصعب الأمور هو وصف الأدوية بالتناقل بمعنى أن ينصح الواحد الآخر باستخدام دواء معين استخدمه هو شخصياً دون أخذ بعين الاعتبار اختلاف الحالات. وعن طريق هذه الإشاعات باتت الأسر تستخدم عدداً من الأدوية وكأنها قطع حلوى دون الأخذ بعين الاعتبار لآثارها الجانبية ولا حقيقة مجال استعمالها، وهذا ما أراه شخصيا هنا بهذه الصيدلية، بحيث ينصح أحد الزبائن آخر بأخذ الدواء الفلاني، وهنا تأتي أهمية الثقافة الصحية والوعي الصحي عند الأفراد والذي ينعكس بصورة أو بأخرى على الصحة العامة في المجتمع. المواطن يتحمل مسؤولية مرضه كذلك وحول مدى انتشار الوعي الصحي في مجتمعنا حدثنا البروفسور الطاهر ريان مختص في أمراض الكلى فقال "إن الثقافة الصحية هي عملية متصلة بعدة شروط وعوامل ومستمرة ومعقدة فهي ليست عملية سهلة وبسيطة إذا اعتبرنا أنها لا تهدف إلى إيصال المعرفة أو المعلومة فقط، ولكن إلى تغيير السلوك وهذا هو هدفها الأساسي، ويمكننا تشبيه الثقافة الصحية بمثلث متساوي الأضلاع ضلع لاكتساب المعلومات أو المعرفة، وضلع لغرس وتأصيل القيم المرتبطة بتلك المعلومة وهو الاتجاه، والضلع الأخير لتطبيق تلك المعلومات، وهذا هو السلوك الذي نسعى لتغييره أو تأصيله، ويتأسف البروفسور من تدني مستوى الوعي الصحي في المجتمع الجزائري بالرغم من كل حملات التوعية والتحسيس التي تقودها جمعيات متخصصة تجوب في الغالب كل مناطق الوطن للرفع من الوعي الصحي اتجاه بعض الأمراض، وإن كانت الجزائر - يقول المتحدث - قد وفقت في إيقاف زحف عدة أوبئة مثل السل والحصبة والشلل وغيرها، فإن التحسينات التي عرفها المجتمع في مختلف المجالات أدت إلى ظهور أمراض جديدة مستعصية يتطلب علاجها تكاليف مالية باهظة، ومنها على سبيل المثال أمراض الشيخوخة كداء الخرف، وانتشار السرطانات وأمراض القلب والضغط الدموي وتصلب الشرايين والسكري والبدانة وأمراض الكلى. وهي الأمراض التي قال بشأنها إنها من أمراض العالم الثالث والعالم المتقدم على السواء، خاصة وأن النمط الغذائي للفرد الجزائري سيء جيدا بحيث أنه مشبع بالدهون والسكريات والصودا التي تقف وراء تصلب الشرايين وأمراض القلب والسكري والبدانة، دون إغفال الاقتناء الذاتي للأدوية الذي له بالغ الأثر على الصحة العامة، وساق المختص مثال دواء الباراسيتامول واسع الانتشار الذي أظهرت آخر الدراسات بشأنه أن تناوله لمدة 10 سنوات يسبب الفشل الكلوي، مشيرا إلى أن المواطن له ضلع كبير في تدهور صحته كون طرق الوصول إلى المعلومة كثيرة ومتعددة ولكن المواطن لا يهتم بصحته إلا متأخرا.. أي بعد فوات الأوان.