راجعت فصولا طويلة من كتابات ابن خلدون، وتوقفت عند مراحل من حياته كما أوردها في سيرته الذاتية، أي في (التعريف بابن خلدون ورحلته شرقا وغربا)، وتأملت في واقعنا الثقافي والسياسي على مراحل، وخلصت إلى النتيجة التالية، وهي أن هذا العلاّمة الذي غمطنا حقه في حياتنا الإجتماعية والجامعية والفكرية عموما هو أبرز نموذج للمثقف العربي المغترب. لقد أكرهته الظروف السياسية في كل من تونس والجزائر والمغرب والأندلس، على التنقل من بلاط هذا الحاكم أو ذاك إلى تلك الدشرة النائية أو إلى ذلك الصقع النائي من أرض المغرب الأوسط لكي يستريح بعض الوقت، ويتفرغ لكتاباته التاريخية والفكرية. بل إن نفس هذه الظروف أكرهته على أن يغادر منطقة الشمال الإفريقي لكي يحط رحاله بأرض مصر، ويلي القضاء المالكي مرتين، ثم ليبعد من منصبه إبعادا كليا. وابن خلدون ليس بطبيعة الحال هو المثقف الوحيد الذي عرف المهانة من بني قومه ومن حكامهم حتى وإن كان هو الأبرز بين جميع الذين أدركتهم حرفة الفكر والتفكير، وشغلتهم هموم الناس الفكرية. غير أن ميزته الأولى والأخيرة هي أنه تعالى على الواقع السياسي في كل مرة، ولم يتخل عن استخدام فكره لكي يدون ما استطاع تدوينه. ولعل عزلته الإرادية في قلعة (بني سلامة) بالغرب الجزائري لكتابة مقدمته هي عزلة المثقف الحقيقي في أسمى معانيها. هذا المثقف المغترب رغم أنفه، تمكّن في يوم من الأيام من إيقاف تيمورلنك في ضواحي دمشق، ومن ثم، فهو قد تمكن من إنقاذ بقية الحضارة الإسلامية. وأحسب أنه لولا لقاؤه بذلك الطاغية الذي دمر الممالك في الشرق كله، لكانت النتيجة أدهى وأمر. وذلك ما يمكن أن نستخلصه من ابن خلدون نفسه. فلقد طلب منه تيمورلنك أن يقدم له وصفا دقيقا عن بلاد المغرب كلها، وفعل ذلك ضمن اثنتي عشرة كراسة. ومعنى ذلك أن الطاغية العجوز كان ينوي الزحف على شمال إفريقيا، ومن ثم تغيير وجهتها الحضارية تغييرا كليا، ولكن اللّه عصم. هل لدينا نماذج من هذا المثقف الأصيل في زمننا هذا؟ بل، وهل هناك من يفكر في الإقتداء به في يوم من الأيام؟ أغلب الظن أن العقم نال منا وما عدنا ننجب مفكرين يطرحون السؤال تلو السؤال، ويطبقون في حياتهم ما يفكرون فيه حقا وصدقا، وخلاصة القول هي أن لدينا متعلمين فقط، وليس مثقفين بالمعنى النضالي لهذه الكلمة. وذلكم هو سبب بلائنا في هذا الزمن.