اليوم، وفي مدينة بجاية ذات العراقة والأصالة، بحثت عن بقايا العلامة عبد الرحمن بن خلدون. القلعة هي هي، حيث أقام ومارس السياسة، وتحدث في شؤون التاريخ والفقه مع كبار العلماء في هذه المدينة. وبحثت أيضا عن بقايا العلامة الإيطالي فيبوناتشي، ذلك الذي جاءها صغيرا، وتعلم فيها اللغة العربية، ونهل من علمائها الأفذاذ كل ما له علاقة بالرياضيات. الأول غائب الغياب كله، والثاني لا يقل غيابا عنه. فلا أثر لهما، ولا تمثال، ولا مخطوطات ولا ألف شيء وشيء. وتلك حالنا مع العلم والعلماء والمفكرين. وإذا كان الأول قد دفعته غوائل السياسة إلى أن يغادرها حفاظا على حياته، وأن ينطلق صوب مدينة بسكرة ومنها إلى الغرب الجزائري، وإلى قلعة فرنده بالذات حيث عكف على التفكير والتدوين، فإن الثاني، غادر هذه المدينة الرائعة وقفل عائدا إلى بلده إيطاليا بعد أن أقام بها بضع سنين. وكان قد بادر بعد ذلك إلى التأليف فوضع كتبا في الرياضيات وتمكن من نشر الكسور العشرية في إيطاليا وفي أوروبا وفي العالم الغربي أجمع. نحن لا نحتفي بعلمائنا ومفكرينا ولا بمن زارونا من العلماء منذ القرون الأولى. أبوليوس، صاحب الرواية الفذة (الحمار الذهبي) انزلق منا مثلما ينزلق الماء من بين الأصابع، واستولى عليه اللاتينيون لأنه كتب بلغتهم. والقديس أوغسطين، انزلق هو الآخر منا، وصار جزءا من الفكر اللاهوتي المسيحي على الرغم من أنه عاش قبل البعثة النبوية ببضعة قرون. وعشرات الأدباء والمفكرين من بني جلدتنا غادرونا إلى ديار أخرى مكرهين مرغمين. حقا، الفكر ملك للجميع، ولكن، هناك حدود لا ينبغي التنازل عنها ولا تجاوزها. وقد يذهب الظن بالبعض إلى أن العولمة تعني زوال الحدود الجغرافية واندثار العناصر التي يقوم عليها هذا الشعب أو ذاك، غير أن مثل هذا الفهم لا يصمد أمام منطق اللعبة السياسية مثلما تمارسها الدول القوية في عصرنا هذا. عبد الرحمن بن خلدون مفكر لا نظير له، وهذه بديهية من البديهيات، وهو عالمي، وعربي، لكنه في الوقت نفسه جزائري مائة في المائة لأسباب عديدة أهمها هي أنه وضع ما وضعه من مدونات في هذه الأرض بالذات على الرغم من جميع عوادي السياسة والزمن التي تكالبت عليه. وفيبوناتشي، عالم رياضيات من الأفذاذ، وهو إيطالي أصلا وفصلا، ولكنه جزء من هذه الأرض، ومن مدينة بجاية بالذات، ويحق لنا أن نحتفي به لأنه تعلم على أيدينا، وغير خريطة الرياضيات في أوروبا وفي العالم الغربي وفي العالم أجمع. أو ليس من حقنا وواجبنا أن نراجع تاريخنا الفكري والسياسي في كل مرة حتى نتبين موقع خطانا في هذا الزمن؟