لاشك أن الكثير منكم لاحظوا انتشار ظاهرة مقززة، ولكنها ليست جديدة في مجتمعنا، وهي ظاهرة ''البصق'' في الأماكن العامة - أكرمكم الله - من قبل الكثير من الناس.. فترى سائق السيارة أوالمارة يبصقون وهم في الشارع بلا اكتراث بنظافة المحيط العام، ثم يمضون إلى سبيلهم وكأن شيئا لم يحصل !.. وهنا بيت القصيد، ففي الوقت التي تشن فيه بعض الدول حملات من خلال فرض غرامات مالية لمكافحة الظاهرة، تمر في مجتمعنا الذي لم يدرجها إطلاقا ضمن أولويات التربية مرور الكرام، لاسيما في غياب أساليب الردع القانونية ووسائل التوعية في مختلف الجهات المعنية. وأمام هذه الحملات التي بدأ العالم يشنها، على غرار سنغافورة التي تعد من أنظف دول العالم، تستوقفنا حقيقة أن الإسلام سبق العالم بأزيد من 15 قرنا في هذا المجال، وهو ما يتجلى من خلال قوله صلى الله عليه وسلم: ''البصق على الأرض خطيئة، وكفارتها ردمها''... لكن هذا السلوك السيئ الذي لا يزال شائعا في أوساط العامة يشير إلى أن الأمر يتعلق بثقافة راسخة لم يغير منها انتشار وسائل الإعلام والتثقيف والإقامة في المدن، مما يبعث على التساؤل: متى نكف عن البصاق في الزقاق؟ الملاحظ في سياق الحياة اليومية أن هذه الظاهرة التي تقشعر لها الأبدان، لم تعد أمرا مخجلا مثلها مثل التبول في الشارع، بل عادة شعبية تمارس في مختلف الأماكن العامة، بل وحتى المسجد لا يسلم منها أحيانا، وفي ذلك مؤشر على حجم الاستخفاف الذي يتمتع به عدد كبير من المواطنين تجاه مسائل النظافة والأخلاق. وفي إطار إنجاز الموضوع بحثت ''المساء'' عن مدى وجود آليات وقوانين لمكافحة البصق في الأماكن العامة، فتوصلت إلى أن قوانين النظافة العامة الهادفة إلى الحد من ظاهرة البصق في الطرقات والأماكن العامة غير موجودة حاليا، كما أن هذا الأمر لا يندرج بعد ضمن برامج التوعية المسطرة من قبل وزارة تهيئة الإقليم والبيئة والهيئات التابعة لها، في حين تكشف آراء بعض المواطنين أن الأئمة وإن كانوا يتحدثون عادة من خلال خطبهم عن ضرورة احترام شروط النظافة، إلا أنهم لا يسلطون الضوء على هذه الظاهرة بالتحديد، وفي ذلك إشارة إلى أن عدة جهات معنية غافلة عن حجم أضرارها الصحية والبيئية والتي تضاف إلى تأثيراتها على الحالة النفسية. البراءة لمن يؤذي الغير بالبصاق!! وبحسب بعض الخبراء الحقوقيين الذين التقتهم ''المساء'' بمحكمة عبان رمضان فإنه لا وجود لنص قانوني يعاقب على البصق في الشوارع.. وفي هذا الصدد نظرت المحكمة مؤخرا في قضية شرطي رفع دعوى قضائية ضد شاب أصابه باللعاب إثر إقدامه على البصق في الحافلة، لكن غياب نص قانوني يعاقب على الظاهرة جعل المتهم يستفيد من البراءة. وبحسب وجهة نظر بعض محدثينا المختصين في القانون، فإن هناك ظواهر أقذر، لكن المشرع الجزائري لم يفكر بعد في إدماجها ضمن جملة المخالفات المنافية للآداب العامة على غرار التبول في الشوارع. وأبدى رجال القانون رغبتهم في أن يدمج المشرع الجزائري البصق في الأماكن العامة في قائمة المخالفات، نظرا لمخاطرها الكبيرة في نقل الأمراض، لأن الناس يمكنهم أن يدوسوا البصاق المتواجد على الأرض، وقد يلتصق بملابسهم أو أرجلهم، مما قد يؤدي إلى انتقال بعض الأمراض عن الطريق اللعاب أوالنخامة، ولذلك مطلوب التشديد في منع الناس عن البصق في الأماكن العامة من خلال الرقابة وفرض غرامات مالية فورية تكفينا شر هذه الظاهرة التي تثير الاشمئزاز وتشوه المنظر العام، فضلا عن أهمية إصدار مناشير من قبل مديريات البيئة للتحسيس حول أضرارها. ويقول رئيس فريق الوقاية والأمن التابعة لوزارة تهيئة الإقليم والبيئة: ''إن ظاهرة البصق في الطرقات والأماكن العامة لم ترق بعد لأن تكون ضمن اهتمامات وزارة البيئة ومختلف الجهات المعنية، والتي لم تتوصل إلى حد الساعة إلى القضاء على ظاهرة الإدمان على التبغ رغم حملات التوعية المتواصلة''. ويوضح المصدر أن الأمر يتعلق بعادات مضرة بالبيئة والصحة، لكن يصعب مكافحتها نظرا لترسخها في المحيط الاجتماعي، إلا أن الصعب لا يعني المستحيل، فالمطلوب هو أن تحظى باهتمام كبير من قبل السلطات العمومية ورفع توصيات بشأنها لاتخاذ الآليات المناسبة للحد من هذه الظاهرة التي تشوه المنظر العام، وكذا تنظيم حملات تهدف أيضا إلى توعية السكان باتباع عادات حسنة، مع الأخذ بعين الاعتبار حقيقة أن التوعية مرهونة بإرساء بيداغوجيا تنطلق من الأسرة لنشر الوعي حول مخاطر البصاق. ويرى مسؤول فريق الوقاية والأمن أن العمليات التحسيسية التي تمثل دور عدة قطاعات لا ينبغي أن تكون ظرفية، لاسيما وأنه يصعب نقل الرسائل في المجتمع الجزائري نظرا لجملة من الاعتبارات منها ما يتعلق بتدني المستوى الثقافي. كما أنه من المستحسن أن تكون الأماكن المستقطبة للجماهير مرتعا أساسيا للتحسيس مثل المساجد التي تستقبل عددا معتبرا من الناس، وذلك لحث الناس على ضرورة العودة إلى تعاليم الدين الإسلامي التي تقوم على مبدإ الطهارة واعتبار النظافة شرطا من شروط دخول الجنة. غائبة عن قاموس التربية! عبر مواطنون عن انزعاجهم الشديد من قيام البعض بالبصق على الأرض بشكل مثير للغثيان، خاصة أولئك الذين يدمنون على التبغ (الشمة).. وعلق الإعلامي ''م.م'' قائلا: ''يتعلق الأمر بعادة سيئة لم نحاربها، ما جعل الكف عن البصاق في الزقاق مبدأ صعب التجسيد، فباتت هذه الظاهرة السلبية تكبر مع الإنسان دون أن يدرك أنه يسيء إلى نفسه وإلى الطبيعة.. بعضهم يبصق دون سبب مع إصدار أصوات مقززة تبعث على التقيؤ.. وآخرون يبصقون دون أخذ عناء تحريك أرجلهم لمسح ''حاشى السامعين''.. والطامة الكبرى في فصل الشتاء عندما يصاب الناس بالزكام ويبصقون بقايا مرضهم دون اكثرات ووضع العواقب الصحية الوخيمة في الحسبان''. ويضيف محدث ''المساء'': ''إن المشكلة هي أن الأولياء لا يربون أبناءهم على احترام شروط النظافة وحماية البيئة.. فالبصق ورمي المناديل وعلب العصير والأكواب البلاستيكية والورقية من العادات السيئة التي انتشرت، وأصبحت جزءا من يومياتنا في غياب النهي عن هذا السلوك عن قاموس التربية، فترى صاحب السيارة الفاخرة والبذلة الأنيقة يطل من النافدة ليبصق دون أي استحياء.. وفي ذلك إشارة إلى تدني مستوى التحضر في مجتمعنا، والانفصام السلوكي الذي ينعكس من خلال التناقض بين ما يحمله الناس من معلومات وبين ما يمارسونه من أفعال في حياتهم اليومية''. ومن جهتها تدلي الآنسة ''مروة'' برأيها قائلة: ''إن عدة أشخاص يدمنون على هذه العادة للأسف، خاصة فئة الرجال ممن يعتبرونه أمرا عاديا بحكم التنشئة الاجتماعية التي لا تفرض قيودا على سلوكاتهم مقارنة بالنساء ..وهو منظر منفر تسقط معه هيبة الرجل مهما بلغ مستواه ومركزه''. إهانة كبيرة ويشارك في الموضوع مسؤول دار الشطار بالبليدة السيد عبد المطلب روينة بوصفه مربيا فاقت خبرته في مجال الثقافة العلمية 20 سنة: ''البصق في الأماكن العامة ظاهرة مؤسفة للغاية انتشرت في غفلة الكثير من الناس عن مخاطرها الصحية التي تفوق مخاطر عادات التقبيل والمصافحة الشائعة في مجتمعنا. وهذا الجانب المهم يتطلب تسليط الضوء عليه للتأثير في سلوكات الناس.. والملاحظ في الواقع أن شبابنا يمارسها في كل مكان، وهذه إهانة كبيرة في مجتمع مسلم ينتمي إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم صاحب الحديث: ''إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق''، فكل القيم التربوية التي نتحدث عنها تبدأ من الأخلاق التي من شأنها أن تصنع الإنسان''. ويتابع أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول في حديثه: ''عرضت علي أعمال أمتي حسنها وسيئها، فوجدت في محاسن أعمالها إماطة الأذى عن الطريق، ووجدت في مساوئها النخامة تكون في المسجد لا تدفق''.. وفي ذلك إشارة إلى أن إماطة الأذى عن الطريق من أخلاق المسلم، وبالتالي إذا كان الفرد في المجتمع الجزائري لا يفكر في إماطة الأذى عن الطريق، فعليه أن يلتزم بتجنب وضع الأذى في الطريق على الأقل، أما إذا استدعى الأمر البصق عند المرض فالواجب الاختلاء في مكان مناسب مثل دورات المياه ثم تنظيف المكان أو في التربة إن لم تجد دورات المياه. ويضيف السيد عبد المطلب روينة أن ديننا الحنيف يستنكر مختلف أشكال الإذابة، وبناء عليه فإن الأسئلة الجدير توجيهها لأولئك الناس الذين يتجرؤون على البصق في الأماكن العامة باعتبار ذلك عادة: هل يمكن أن نبصق في البيت أوداخل المسجد؟.. لماذا تلك البقع البيضاء التي ترصع الشوارع حاملة معها شعور النفور واحتمالات نقل العدوى؟ هي قضية أخلاق بالدرجة الأولى، تستدعي الكثير من التوعية داخل الأسرة وتنظيم حملات تحسيسية في الوسط التربوي مع بث برامج تلفزيونية توعوية، باعتبار أن الصورة يمكن أن تحدث تأثيرا كبيرا في سلوكات المواطن. البصاق.. خطر ناقل للأمراض ولتسليط الضوء على الأضرار الصحية لظاهرة البصق في الأماكن العامة اتصلنا بالدكتور كمال جنوحات، مختص في علم المناعة، فأوضح أن هناك ميكروبات تقاوم الحرارة، وبالتالي تبقى في البصاق، وهو أمر ينطوي على خطر نقل الأمراض للغير خاصة عندما يتعلق الأمر بالمصابين بالتهاب الكبد الفيروسي ''ب'' أو مرضى وحيدات النواة mononucléose وهو مرض غير خطير، لكنه في حالات نادرة قد يتسبب في الإصابة بالسرطان. ويؤكد الدكتور أنه يتعين على الناس أن يقلعوا عن هذه العادة المضرة وأن يتوخوا الحذر حتى عند العطس من خلال استعمال المناديل حتى لا يصيبوا الغير بالبصاق المتطاير، مع الحرص على الالتزام بشروط النظافة ومبادئ الوقاية الصحية التي تقتضي غسل اليدين في حالة احتكاكها بالبصاق لتفادي مختلف أنواع الخطر الذي قد ينجم عنه. ويبقى القول إن الحفاظ على محيط المدن وصحة السكان مرهون بالالتزام بالقيم التربوية، التي من شأنها ضمان سلامتنا الصحية والنفسية.. وهذه الأخيرة مرهونة بتعاون الجميع على رفض ومحاربة هذا الاستفزاز المنتشر، والذي قد تصعب مواجهته حتى بالقوانين والمراقبة..