قليلة هي الكتب التي تناولت بشكل من التدقيق والتحليل والتأمل الفترة التي أعقبت سقوط طغاة بعض الدكتاتوريات العربية كمصر، تونس وليبيا، باعتبارها الغاية النهائية التي قال عنها ''فوكوياما'' في نظريته الشهيرة: إنّ نهاية التاريخ ستحسم حتما الصراع لصالح الديمقراطية، وهذا ما يحاول المفكر اللبناني علي حرب الإجابة عنه في كتابه الأخير ''ثورات القوّة الناعمة في العالم العربي، نحو تفكيك الدكتاتوريات والأصوليات''، إذ يقدّم حرب فيه قراءة من مداخل متعدّدة وزوايا مختلفة للأحداث المتسارعة والمتلاحقة التي شهدها الوطن العربي، مركّزا على ثورتي تونس ومصر لأنّهما نجحتا بأقصى سرعة، وبأقل الخسائر في الأرواح، ونجحتا في تحقيق الحدّ الأدنى من أهدافهما وهي سقوط النظام السياسي، في انتظار تغيير النظام الفكري بعدّته وعاداته وآلياته. يذهب المؤلف من البداية إلى أنّ الانتفاضات الرّاهنة هي ثمرة فتوحات العولمة التي كانت تشكّل بالنسبة للكثيرين خطرا على الهوّيات الثقافية، وكان من إيجابياتها أنّها غيّرت علاقة الإنسان العربي بمفردات وجوده مثل الهويّة، الثقافة، السلطة والحريّة، كما شكّلت فرصة وجودية للمجتمعات العربية للخروج من تخلّفها الحضاري وقصورها العقلي، لتساهم في بناء العالم بصورة إيجابية بنّاءة. يقول علي حرب: ''إنّ القوى الجديدة والأجيال الشابّة عرفت كيف تمتلك مفاتيح عالمها، مستثمرة معطيات القوّة الناعمة والفائقة للثورة الرقمية والتقنية بمعلوماتها ورموزها وصورها، كما بهواتفها وشبكاتها وكتبها التي خلقت مساحات وميادين ومنظّمات افتراضية للتواصل والتبادل والتجمّع، أمكن ترجمتها على أرض الواقع إلى قوّة خارقة كانت بمثابة تسونامي سياسية، الأمر الذي مكّنها من التغلّب على القوى المهيمنة بأنظمتها الاستبدادية ومنظوماتها الإيديولوجية، مخلخلة بذلك ثنائية الديكتاتوريات والأصوليات، بقبضاتها الأمنية ومافياتها المالية وعقائدها الاصطفائية التي تولّد المساوئ والمصائب والكوارث..''. ويضيف: ''.. من هنا فإنّ الثورات الجارية هي متعدّدة الأبعاد، إذ هي سياسية بقدر ما هي فكرية، وتقنية بقدر ما هي ثقافية، وخلقية بقدر ما هي اقتصادية، لأنّها تجسّد ولادة فاعل جديد على المسرح، هو الإنسان الرقمي صاحب العقل التداولي الذي يتعامل مع معطيات وجوده ووقائع حياته بمفردات الاختراع، الابتكار، التحويل، البناء والتجاوز''. من خلال الثورات، يحاول العالم العربي أن ينخرط في العالم الجديد من خلال عدة مسارات منها؛ خلع عباءة الإيديولوجيات المقدّسة، كسر عقلية النخبة بالانتقال إلى المجتمع التداولي، وكسر البيروقراطية الفوقية بالانتقال إلى عصر الشبكات الآنية والكتب الرقمية والمعلومات العابرة، ثم التخلي عن منطق العنف والإرهاب، وكل ذلك بتغيير نظرة الآخرين إلى العرب في واقع تتعولّم فيه المشكلات والخيرات كما تتعولم الأفكار والثقافات والهويات.