"حاجيتك ما جيتك ولو كان هو ما جيتك''، عبارة عندما تسمعها تتوقّف إذا كنت في حال حركة، تبحث عن مصدر الصوت ولا ترتاح إلاّ بعد إيجاده، لأنّك تدرك أنّ حكاية ما تُحكى، وأنّ ما من حدث يجمع الجميع بمختلف الأعمار إلا الحكاية نفسها، وحبا لهذا الفن الشعبي الأصيل، امتهن البعض هذه الحرفة بكل حب وتفان، من بينهم ماحي صديق، حكواتي من سيدي بلعباس، التقت به ''المساء'' وتغلغلت في عالمه المليء بالحكايات، الأساطير والخرافات. عالم الحكايا متميّز فعلا، فهو ينهل من الواقع ويسبح في الخيال في آن واحد، لكن كيف يرد ماحي عن الاتهامات التي تنال الحكاية كفن شعبي ولّى عليه الزمن، ولم يعد له قائمة في زمن الأنترنت والتكنولوجيا الحديثة؟ يرد ماحي على هذا بقوله؛ ''نحن الحكواتيون موجودون منذ أمد بعيد وما زلنا على العهد أبد الدهر، امتهنت هذه الحرفة منذ أزيد من خمس وعشرين سنة، وقعداتي الشعبية تجمع حتى 700 شخص، وآخر عرض لي كان في جامعة عيساوة بتيزي وزو، حضره أكثر من ألف شخص''. وأكّد ماحي قدرة الحكواتي أو ''ال?وال''، على التكيّف مع المتغيرات، والدليل على ذلك تنشيطه لقعدات في المدارس بأطوارها المختلفة، المستشفيات، المراكز الثقافية، دور الشيخوخة، الإذاعة والتلفزيون وغيرها، بعدما كان فضاؤه الأساسي الأسواق الشعبية، مضيفا أنّ الحكواتي استطاع فرض نفسه في هذه المؤسسات وإثبات عصرنة الحكايات التي لا تشيخ مع مرور الزمن، وتحافظ بذلك على نضارة شبابها. سماع الحكايا حاجة لا تضمحل بمرور السنين، وهو ما يؤكّده ماحي (واسمه الحقيقي صديق مسلم)، حينما يقول أنه أحيانا يستمر في سرد الحكايا ساعات طويلة، فلا هو يملّ ولا الجمهور يسأم، مضيفا أنّه من الضروري أن تجمع وتكتب هذه الحكايا حتى تخلد حقا، وهو ما طالب به الكاتب مولود معمري في مؤلّفه ''ماشاهو''، وهكذا ستنبض حياة ثانية فيها. بالمقابل، تعتمد الحكاية وإن تمت كتابتها، على طريقة سردها، أي كيفية إعادة إحيائها وتزويدها بدعائم عديدة مثل جماليات الصوت وقوته، نظرة العينين ولغتها، التشويق، الصمت في فترات معيّنة، كلّ هذا يساهم في توسيع مخيّلة المتلقي، وفي هذا الصدد، يقول ماحي أنّه في كلّ مرة تتم دعوته من طرف جمعية ''البصمة'' بسيدي بلعباس والمختصة في الرسم، حتى يقص عليهم حكايا، يستلهمون منها ويترجمونها في لوحات فنية. في إطار آخر، أعاد ماحي كتابة قصة ''بقرة اليتامى'' التي يعتبرها مفخرة الموروث الشعبي الجزائري والمغاربي، عشقها منذ أن كان طفلا صغيرا، حينما كانت والدته تقصها عليه، وزاد حبه لها بعد أن اكتشفها في نص لطاوس عمروش في كتابها ''البذرة الساحرة''، وهنا تيقن أنّ هذه الحكاية العتيقة يحفظها المتعلّم والأميّ، فقرّر أن يعيد حكايتها، ملبسا إياها رداء تقليديا شعبيا. ولكن هل كتب ماحي قصة تمس موروثا شعبيا غير جزائري؟ نعم، يجيب الحكواتي، وكان ذلك حول غزة وأطلق عليها عنوان ''لوكان كنت في غزة'' وهكذا كتب نصا من التراث الشعبي الفلسطيني لم يتجسّد بعد على الورق، إذ أنه يبحث عن دار نشر تتبناه، وتحكي هذه الحكاية قصة حواس الصياد الذي يسعى لكسب رزقه كالعادة، ويرمي شبكته في البحر، وحينها يرى حمامتين تطيران؛ واحدة تضع الحنة على جسدها والثانية لا تضع شيئا، هذه الأخيرة نزلت إلى الأرض ونزعت ريشها ودخلت إلى البحر لتسبح، وفجأة وبقدرة قادر، تتحوّل إلى امرأة بجمال ليس له مثيل، لتهب ريح قوية وتطير الحمامة التي كانت تحرس الريش، أما تلك التي تسبح، فبدأت في الصراخ وطلب النجدة. هرع الصياد لنجدة المرأة (التي أصلها حمامة) ونزع جلابيته وسترها، فقالت له؛ اسمي صافية و''كيما سترتني نسترك حتى يوم الدين''، وطلبها الصياد للزواج فقبلت وعاشا في سعادة كبيرة إلى غاية اليوم الذي رآها فيها ابن ملك المنطقة، كان مدلّلا لا يُرفض له طلب وانبهر بجمالها، فرغب في الزواج بها، ومرض فهرولت والدته الملكة إلى زوجها مطالبة بتحقيق مراد ابنهما وإلاّ فإنّه هالك لا محالة، وفكرا في حيلة تجبر الصياد على تطليق زوجته، وجمع الملك شعبه وأخبرهم أنّه سيختار شخصا وسيطالبه برفع التحدي، وإن لم يقدر على ذلك سيقتله، واختار الملك الصياد، وطالبه بجلب شبكة طولها سبعة أضعاف طول البحر. أصيب الصياد بحالة من الهلع وركض إلى زوجته صافية شاكيا لها همه، فقالت له؛ لا تخف كيما سترتني نسترك إلى يوم الدين''، وطالبت منه أن يذهب إلى أختها الحمامة في الجبل، ويقدّم لها حبات من الزيتون والتين المجفف، ففعل وأعطته الحمامة مغزلا، وقالت له؛ ''ارميه في البحر وبقدرة قادر، يتحقّق مرادك، ففعل وشعر الملك بغيظ كبير، فهل سيترك الصياد في حاله؟ البقية نجدها في حكاية ''لوكان كنت في غزة''. وقال ماحي أنّ قصصه لم تجد أيّ دار نشر تحتضنها وتنشرها، في حين وافقت دار نشر فرنسية ''أرماتون'' على نشر ثلاثة نصوص له ولدانيال لودوك، وهي؛ ''حجرة القمر'' و''ابن آدم ألي كان يشوف الليل'' و''مرآة الماء''، كما نشرت له قصة ''الطوير ألي منقارو أخضر'' في مجلة إسبانية متخصّصة، وأجرت معه حوارا مطوّلا، وهذا في إطار تخصيص المجلة لملف خاص بتراث إفريقيا. قصة ''الطوير ألي منقارو أخضر'' تحكي عن صياد اصطاد عصفورا منقاره أخضر ووضعه في قفص مصنوع من الفضة والذهب، وفرش له بالصوف والحرير، مرت الأيام ورغب الصياد في الصيد، فأخبر الطير بذلك وطلب منه إن أراد أن يبلّغ السلام لعائلته، فقال له الطائر؛ أخبرهم أنّني أسلّم عليهم، وأنّني أعيش في قفص مصنوع من الفضة والذهب ومفروش بالصوف والحرير، وأكلي كأكل السلاطين، وذهب الصياد إلى الغابة والتقى بطائر يشبه تماما طائره، وقال له؛ ''عجبا لدي طائر يشبهك تماما''، أجابه الطائر؛ ''نعم هو ابن عمي ولا أدري إن كان حيا أو ميتا''، فأجابه الصياد؛ ''هو حيّ وأخبره بما أوصاه الطائر أن يقول، وفجأة، سقط الطائر متظاهرا بالموت. وعاد الصياد إلى منزله وأخبر طائره بما حدث، وسرعان ما سقط طائره أيضا فأخرجه من القفص ووضعه على الأرض، وشرع في البكاء، وبعد زمن قصير وكأنّ الحياة عادت إلى الطائر، فطار قائلا؛ ''هذه الرسالة التي أرسلها لي ابن عمي، والتي أفصحت عنها بلسانك، وهكذا نجوت من السجن الذي طال''. واعتبر ماحي أنّ الجمهور الجزائري يعشق الحكايا، أما السلطات المختصة، فلا ترى فيه فنا، رغم أنّ الحكواتي حينما يقدّم حكاياه لا يستعين بأي شيء، مثل ديكور أو مؤثرات صوتية وبصرية، بل يعتمد فقط على حضوره ودواخله لأنّ الحكواتي في آخر المطاف، لا يمكن له إلاّ أن يستخرج من كنهه كلّ ما يمكن أن يجسّده أمام الجمهور، ورغم كل الصعوبات -يضيف ماحي-، لا ينتظر الحكواتي الإعانات، بل يمتهن حرفته بشجاعة وحب. وأشار ماحي إلى أنّه من يريد امتهان هذه الحرفة، يجب أن يتدرّب كثيرا مستطردا أنه أصبح حكواتيا بعد نهله من المسرح والشعر الملحون والتراث، رغم أنّ أبناء منطقته يقولون؛ إنّهم عرفوه دائما حكواتيا، إلاّ أنّ ماحي لم يع بذلك إلاّ بعد أن احترف المهنة. ماذا عن مشاركته في المهرجان الدولي لفنون الأهقار بتمنراست وتنشيط ورشة الحكايا؟ هل نهل من تراث التوارق الثري؟ ويجيب ماحي بأنّه شارك في طبعتين من مهرجان فنون الأهقار، مؤكدا أنّه ليس من السهل النهل من تراث التوارق، لأنّه كنز حقيقي والكنز لا نجده بسهولة، يجب في بادئ الأمر الاحتكاك بسكان المنطقة وإنشاء علاقات إنسانية متينة معهم، لأنّ القصص والأساطير العميقة نجدها في ذاكرة الجدات والأجداد، ولهذا فقبل أن نفكر في الوصول إلى هذه الحكاية، يجب أولا أن نؤسّس علاقات ثقة مع صاحبها، وبهذا استطاع ماحي بعد مشاركته الثانية في هذا المهرجان، من التغلغل في ثقافة وتراث التوارق وهو ما اعتبره في غاية الأهمية، لأنّه يجب أن يدرك الحكواتي فكّ شفرة النصوص باعتبار أنّه لا توجد قصة بدون رموز. وأضاف ماحي أنّه مثلما لا حدود زمنية للحكاية، فهي أيضا تنتقل عبر الدول، وبالتالي يمكن إيجاد نفس الحكاية في اليابان، ألمانيا والجزائر، رغم وجود، طبعا، بعض الاختلافات، فابن المقفع جلب قصص كليلة ودمنة من الهند، ولافونتان الفرنسي من ابن المقفع، وهكذا هي الحكاية ترفض الجمود وتتحرّك دوم