من منا لم يرتم يوما بين أحضان جد أو جدة وهما يرويان له قصة أو أحجية في كنف عتمة الليل البارد، أو تحت لواء شمعة احترقت دموعها بين ثنايا تلك الحكايا التي تعود بنا إلى الزمن الجميل، زمن "ألف ليلة وليلة" و"لونجة بنت الغول" .. ذلك الزمن الذي نحنّ إليه لا محالة، ونتمنى عودة ولو لحظة منه ولو في حلم يمنحنا تذكرة سفر ترسو بنا في عالم البراءة .. من منا لا يملك طفلا بداخله يأبى دوما أن يكبر، كلّنا نملكه غير أنّ الفنان الحكواتي مسلم صديق ماحي كان له الحظّ الأوفر في تأسيس إمبراطورية ملوكها أطفال وجنودها أحجيات وأساطير، لا لشيء سوى ليرحل بنا على بساطه الطائر إلى فضاء المغامرة والعبر.. التقته "المساء" على هامش فعاليات الأيام الوطنية الأولى للمسرح ببراقي، فكان لنا معه هذا الحوار.. - يسعى ماحي من خلال حكاياته لتبليغ رسالة كلّ من بشير حاج علي، مولود معمري، كاتب ياسين، وآخرون، فهل لك أن تعرّفنا أكثر بنفسك؟ * أنا من مواليد 20 جانفي 1960 بمدينة سيدي بلعباس، ترعرعت في بيت بسيط ومتواضع يقع بشارع " ليمورس" المعروف ب "القرابة" والمدعو حاليا بحي "الأمير عبد القادر"، وكان يتوسّط بيتنا آنذاك حوش المرحوم الشيخ زرقي الذي يعدّ من كبار روّاد فن الراي بالمنطقة، وكذا مسكن المرحوم الفنان الشيخ المدني، بعدها انتقلنا إلى وسط المدينة وتحديدا شارع "قنبيطة" حيث قضيت أجمل سنوات عمري وأروع لحظات صباي وشبابي رفقة أقراني وأترابي. - كيف كانت بدايتك مع الفن بشكل عام ؟ * كنت صبيا عندما انضممت إلى فرقة "الأمل" التابعة للكشافة الإسلامية الجزائرية، فانتهلت من خبرة وحنكة مؤسسيها وقائديها كما هائلا من المعارف والخبرات في مجالات عديدة كالفلكلور، الغناء والمسرح.. غير أنّ بدايتي الفعلية كانت مع فرقة "الفصول الأربعة" وذلك في سنة 1975، حيث كان عمري آنذاك لا يتجاوز 15 ربيعا، احتككت على مستواها بثلة من الزملاء والأصدقاء أمثال قادة بن شميسة، رشيد عماني، عبد القادر بن سعيد، قدور الزاهي، محمد السمينة، فريد محراز وكذا رشيدة بن شميسة التي كانت العنصر النسوي الوحيد في هذه الفرقة التي عملت على إنتاج عدة أعمال مسرحية قيّمة كان لها تأثير بالغ على الشباب الهواة للمسرح من جيل السبعينيات، كمسرحية "العجلة"، "الموزاييك"، "التويزة" وكذا مسرحية "الركاب" التي لقيت صدى متميّزا خصوصا من طرف فقيد الساحة المسرحية الوطنية المرحوم عبد القادر علولة الذي أثنى شخصيا على العرض وثمّن الجهود التي يقوم أعضاء الفرقة ببذلها، معربا بذلك عن إعجابه الشديد بها. - بعد "الفصول الأربعة" التحقت بفرقة "الدبزة"، حدثنا أكثر عن هذه التجربة؟ * في الحقيقة كان الالتحاق بفرقة "الدبزة" بالجزائر العاصمة سنة 1980، ولعلّ ما جعل هذه الفرقة مميّزة عن سابقاتها هو ذلك الانسجام والتناغم الذي سجّله عناصرها على كافة المستويات والأصعدة كاختلاف اللهجات وتباين الثقافات، فضلا عن التنوّع في الأصول والجذور وكذا العادات والتقاليد، فقد كانت تضم فنانين من مختلف ربوع الوطن، من تيزي وزو، سيدي بلعباس، سطيف، تيارت، سوق أهراس.. وهذا التزاوج كان له الفضل الكبير في نهل المزيد من الأفكار ووجهات النظر التي ساعدتني على صقل مواهبي وشق مشواري الفني. كما أنّ أكبر ثمرة جنيتها في هذه الفرقة كانت سنة 1985 حينما قمت بتأسيس النادي السينمائي بمقر متحف السينما "موسكي" بسيدي بلعباس، فهذه الفرصة التي سخّرت لي فضاء رحبا وأرضية خصبة للإبحار في عالم الفن السابع مكّنتني من الالتقاء ثمّ التعامل مع المخرج بلقاسم حجاج، وذلك كمساعد مخرج في فيلم وثائقي حمل عنوان "المرأة طاكسي" . - بالرغم من النجاح الذي أحرزته في مجال السينما إلاّ أنّ الحنين إلى الخشبة كان يشدّك بقوّة حتى نال منك.. فكيف كانت العودة ؟ * حبي للفن الرابع وعشقي للركح هما سببا عودتي، إذ اعتبر هذا الفن مرآة الواقع وصوت المجتمع بلا منازع، فراحتي كفنان لا أجدها إلاّ عندما أتكلّم بصوت العامة من الناس وأفكّر بذهنية المواطن الجزائري على اختلاف مستوياته الاجتماعية والثقافية، وكذا تباين أصوله ومعتقداته الدينية، هذا الفن المتكامل الذي شدّني الحنين إليه وغمرتني رغبة جامحة في اقتحامه والعودة إليه بعد قطيعة دامت فترة من الزمن، جعلتني أنسج خيوط عمل جديد أخذ شكل ملحمة حملت عنوان" السجين 7046 " وذلك كمساعد إداري للإنتاج إلى جانب المخرج المسرحي الحبيب مجهري الذي عملت معه في مسرحية "العودة" وكذا عدّة عروض مسرحية أخرى. - إذاً، كان للمسرح الفضل الكبير في اكتشاف موهبتك الحقيقية ك"حكواتي"، كيف كان ذلك ؟ * بعد جلّ التجارب التي عشتها وكلّ الأدوار التي جسّدتها، اتّضح لي أنّ ملاذي الوحيد يكمن في فن الكتابة، فكانت البداية مع كتاب "التعسّف" لمؤلّفه بشير حاج علي الذي أطلقت عليه اسم "ليالي سبتمبر"، حيث قمت بترجمته إلى اللّغة العامية، فكان بالنسبة لي بمثابة تذكرة أو تأشيرة نلت من خلالها حب الجمهور الذي أكسبني الثقة بالنفس وشجّعني على الاستمرار في هذا المجال، لا سيما بعدما أصبح العام والخاص يعرفني باسم "ماحي الحكواتي". - قمت بترجمة أمّهات الكتب الجزائرية وحتى العالمية.. هل لك أن تذكر لنا البعض منها ؟ * لقد قمت بترجمة عدد كبير من الكتب على غرار قصص الكاتبة الراحلة طاوس عمروش التي قمت بجمعها في مؤلف "الحبة السحرية" إضافة إلى قصة "بقرة اليتامى" وكذا كتاب "مشاهو تلم شاهو" للكاتب الكبير مولود معمري. - لم يمنعك فن الحكاية من المواصلة في المسرح، ما سرّ هذه الثنائية ؟ * هذه الثنائية وجهان لعملة واحدة، فكلاهما يصبّ في بوتقة الفن، وبما أنّي أعشق كلّ ما هو فن على اختلاف أنواعه وضروبه، فقد كان لزاما عليّ أن أواصل مشواري المسرحي رفقة المخرج الحبيب مجهري، لكن هذه المرة مع فرقة "الورشة الثقافية" التي قمنا من خلالها بإنتاج مسرحية "المعزة والفيل" ثم تلاها عمل مسرحي آخر بعنوان "كورال" للمخرج عز الدين عبار، وذلك بالتنسيق مع المسرح الجهوي لسيدي بلعباس. - وماذا عن الصعوبات والعراقيل التي اعترضت سبيلك وأنت تتقمّص دور الحكواتي ؟ * إنّ الخبرة التي اكتسبتها في مجالي المسرح والسينما وكذا اتصالي المباشر مع الجمهور ساعدني كثيرا على تقمّص دور الحكواتي، لا سيما وأنّني قمت بالاستعانة بعدّة تقنيات مسرحية كالصوت والإيماءات وكذا الحركة والإشارات، وذلك من أجل ترسيخ المعنى وتقريب الفكرة من الجمهور المتلقي. - هل لك أن تحدثنا عن اللقاء الذي جمعك بالكاتب والأديب الفرنسي دانيال لودوك ؟ * أعتبر هذا اللقاء بمثابة المنعطف أو المنعرج الأكثر أهمية وإثارة في مفترق طرق مشواري الفني، حيث تمخّض عنه ترجمة عدّة مؤلفاته إلى لغتنا الشعبية مثل "حجرة القمرة" التي تولت دار"آرمتون" نشرها ضمن مجموعة "الرياح الأربعة" .. ناهيك عن مجموعة أخرى من النصوص أمثال "ابنادم اللي كان يشوف الليل"، "مرايت الماء" وكذا "مفتاح السعادة" التي تمّ طبعها وتوزيعها في مختلف أنحاء العالم. - للإشارة، تعاملت أيضا مع الحكواتية الكندية "نيكول سيكال"، حدثنا أكثر عن هذه التجربة ؟ * كان ذلك بمناسبة اليوم العالمي للحكاية، وقد تضمّنت مشاركتي عرض ثلة من القصص والحكايات التي تنم عن تراثنا وإرثنا الشعبي، وذلك على المباشر عبر النت، ولعلّ ما ميّز هذه التجربة الفريدة من نوعها هو أنّه بالرغم من أنّ أطفال كندا لا يفقهون شيئا في اللغة العربية لا سيما الدارجة منها، إلاّ أنّ الهدف منها كان تسليط الضوء على مقامات ونبرات صوتية تختلف عن تلك التي ألفوها في لغتهم، فكان التجاوب رائعا روعة أحاسيسهم البريئة. - يقال إنّه من الصعب التعامل مع الطفل، ما تعليقك على ذلك ؟ * الصعوبة لا تكمن فقط في التعامل معه بل تتعدى ذلك بكثير، لا سيما ما تعلق بإرضائه وإقناعه، وهو بالفعل ما قمت باكتشافه من خلال تجربتي في فن الحكاية التي جعلتني أحتك بهذه الشريحة عن قرب، فالطفل بإمكانه التمييز جيّدا بين ما هو جدي وهادف وبين ما هو رديء ومبتذل، لذا على الفنان بشكل عام والحكواتي بشكل خاص أن يقوم بمراقبة كلّ خطوة أو حركة يقوم بها مع مراعاة الالتزام بالصدق والتلقائية، وذلك حتى يكسب أكبر قدر ممكن من جمهوره ومتتبّعيه. - ماذا عن مشاريعك وآفاقك المستقبلية ؟ * بحوزتي حاليا مجموعة من النصوص التي أنهيت ترجمتها وهي "هبرة بنت السبع"، "رميضة"، "الطير اللي منقاره خضر"، "هاتو بلهاتو الرجل اللي ما دارش براي مراتو".. وغيرها، وأتمنى من كلّ قلبي أن يتمّ طبعها ونشرها في الجزائر. - وماذا يقول ماحي لعشاقه؟ * أود أن أقول كلمة واحدة ووحيدة وهي أنّني أعشق الأطفال أينما كانوا وحيثما وجدوا، لذا أسعى جاهدا لتقديم الأفضل لهم وكل ما يليق بهم، كما أنني سأغتنم هذه الفرصة للتنويه من خلال هذا المنبر "المساء" بضرورة الأخذ بعين الاعتبار الحكاية كفن راشد ومتكامل ومن ثمة الاعتراف به وفتح الأبواب لممارسيه ومحبيه.