تطرح الجامعات الجزائرية سنويا، مخرجات لا تتوافق بالضرورة مع متطلبات سوق العمل، كونها لا تتطابق مع قاعدة وضع الطالب المناسب في المكان المناسب، وهي إشكالية تدعو إلى تسليط الضوء على واقع التوجيه المدرسي والمهني الّذي يفترض أن يلعب دورا رئيسيا في تحضير الطلبة، لممارسة مهن تشعرهم بالرضا الكفيل بتحقيق المردودية المطلوبة في عالم الاقتصاد.. وفي هذا الصدد، تصح وقفة للاطلاع على أسباب تعذر توجيه الطالب إلى نوع العلم الذي يتناسب مع قدراته. فالتوجيه المدرسي والمهني في النهاية لبنة أساسية لرسم مسار المستقبل المهني، إلاّ أنّ هذا المسار يبدو غامضا بالنسبة لبعض التلاميذ، وعن أسباب هذا الغموض، سلطت ''المساء'' الضوء، من خلال التحاور مع بعض الطلبة الجامعيين والثانويين وكذا مستشاري التوجيه المدرسي والمهني. طلبة ندموا على اختياراتهم.. متأخرين واجهت ''سامية'' بعد حصولها على البكالوريا، صعوبة في تحديد خطواتها التالية، وتحديد الوظيفة التي تناسبها.. قلق كبير يُطوِقها منذ ذلك الحين، لأنّها تدرس تخصصا لم يكن واردا في الحسبان..''سامية'' تدرس الآن تخصص علم الاجتماع وصديقتها ''ياسمين'' تدرس علم النفس، والنقطة المشتركة بينهما تكمن في كونهما كانتا تحبان مادة العلوم الطبيعية، لكنّ مشكلتهما كانت ممثلة في ضعف قدراتهما في مادة الرياضيات، والتي حطمت بمعادلاتها الصعبة أحلامهما المهنية. تتذكر ''سامية'' أنّها شاهدت مستشار التوجيه المدرسي والمهني مرة واحدة، عندما اقترب موعد امتحانات شهادة التعليم المتوسط، وكان آنذاك قد فات أوان التوجيه الذي من شأنه أن يسمح بالاختيار الموضوعي، لأنّه -مثلما تقول الطالبة- ''سامية''؛ ''بطاقة الرغبات كانت مملوءة، والإرشاد الذي كنا نحتاج إليه منذ السنة الأولى في الإكمالية لمعرفة جملة الشروط الواجب توفرها، للتمكن من دراسة الشعبة المرغوب فيها، كان غائبا''. ''سامية'' الآن تدرس في كلية علم الاجتماع عن مضض، والحيرة تحيط بها.. ماذا يمكنها أن تفعل وتراها تدرس منذ أكثر من سنة اختصاصا لم يرق لها، وتشير إلى أنّها تحصلت على علامة صفر في إحدى الوحدات!.. وهذه الحيرة يتقاسمها معها العديد من الطلبة الجامعيين الذين لم يجدوا من يُعينهم على الاختيار الصحيح الذي يُحدد التخصصات التي تناسبهم، ويرشدهم إلى شروط دراسة الشعبة المرغوبة في الطورين الإكمالي والثانوي. والسبب حسب الطلبة الثانويين والجامعيين، ممن استطلعت ''المساء'' آراءهم، هو أنّ خدمة الإرشاد المدرسي والمهني لا تستفيد منها كافة المؤسسات التربوية بالشكل المطلوب، كما أنّ الدور التكميلي الّذي يجب أن تلعبه الجامعة ومعاهد التعليم العالي لتكمل إنجازات مرحلة التعليم العام في مجال التوجيه، وتساعد بالتالي الطالب على تحديد التخصص الجامعي المناسب، تعرقله للأسف معدلات القبول ودرجة تحصيل الطالب التي لا تكون أحيانا في المستوى المطلوب، وأيضاً تدخّل الأولياء لاختيار مهنة المستقبل التي يرونها مناسبة لأبنائهم، دون أخذ رغبته بعين الاعتبار أو دون إدراك مسبق لمفهوم سوق العمل. والمعروف أن مستشار التوجيه المدرسي والمهني يقوم بمهامات عديدة، منها إرشاد الطالب ونصحه لاختيار نوع التعليم المناسب لإمكاناته العقلية والشخصية، مع وضع خطط وبرامج لحل المشكلات التربوية، فهل يمكن فعلا أن يقوم بالمهام الكثيرة المسندة إليه على أكمل وجه، لاسيما ما تعلق بمرافقة التلميذ في مشروعه المهني؟ بين شساعة النطاق الجغرافي وتدخل الأولياء وفي هذا الصدد، تقول مستشارة التوجيه المدرسي والمهني بباب الواد، والتي فضلت عدم ذكر اسمها؛ ''إنّ المفروض هو أن يجمع مستشار التوجيه المدرسي والمهني في إطار عمله، بين الإعلام المدرسي (حصص تحسيسية منها ما يتعلق بالتحضير النهائي للإمتحانات)، إلى جانب التوجيه والمتابعة النفسية. وفي ظل هذا المهام المتعدد الأوجه، نستنتج اهتمامات التلميذ، إذ نحاول، كمرشدين، إظهار قدرات وميولات التلاميذ لاستخدام طاقاتهم الكامنة في الاتجاه الصحيح، لكن المشكل الّذي يعترضنا هو أنّ بعض الآباء يحرصون على تغيير الاختيارات، وهو ما يتنافى ومصلحة التلميذ''. وتسجل محدثتنا أنّ الأغلبية الساحقة تطلب شعبة العلوم الطبيعية والحياة، باعتبار أنّها تتيح فرص اختيار كثيرة بعد الحصول على شهادة البكالوريا، كما تفتح مجالا واسعا للاستفادة من التكوين، ما يجعل الشعبة العلمية محتكرة. وفي المقابل، تسود نظرة قاصرة تجاه علوم الإنسانية والآداب، رغم أن المعروف تاريخيا هو أنّ الكثير من الأطباء المشهورين كانوا فلاسفة، وهذه التصورات الخاطئة سبب غياب التوازن بين التخصصات النظرية والعملية. وتضيف بخصوص إمكانية تغيير الاختيار الذي حدده المستشار من طرف الولي، بأنّ معدل التلميذ هو الذي يحسم مسألة قبول رغبة الآباء أو رفضها. غير أنّ تدخل الآباء لفرض رغباتهم على أبنائهم ليس العامل الوحيد الذي يعقد مسار رسم مستقبل التلميذ، تعترف المستشارة، مبرزة أنّه يصعب على مستشاري التوجيه المدرسي والمهني في بعض الأحيان تقييم قدرات بعض التلاميذ، أو تحديد التخصصات التي تناسبهم وتسهّل من مهمتهم في المستقبل، في دراسة ما يناسبهم في الجامعة، والحصول بالتالي على الوظيفة المناسبة، نظرا لانعدام ميولات محددة لديهم، إلى جانب ضعف تحصليهم في مختلف المواد الدراسية. وردا عن سؤال ل''المساء'' حول عدم استفادة بعض التلاميذ في بعض المؤسسات التربوية، من خدمة مرافقة مشروعهم المهني خلال المرحلة الإكمالية أو الثانوية، تقول؛ إنّه في العموم يتعين على كل مستشار أن يغطي ثانوية وإكمالية، إلاّ أنّ شساعة النطاق الجغرافي المسند لبعض المستشارين في بعض المناطق قد يحول دون أداء مهام التوجيه وفق الصورة المطلوبة، الأمر الذي تكون له انعكاسات على سوق العمل، لافتة إلى أنّه سبق لمستشاري التوجيه المدرسي والمهني أن طالبوا بتقليص النطاق الجغرافي المسند إليهم، لكن لا نتيجة تذكر على الميدان إلى حد الساعة. ومن جانبه، يوضح مدير مركز التوجيه المدرسي والمهني لباب الوادي ''كمال عيساني''، أن مستشار التوجيه المدرسي والمهني مطالب بتشخيص الإشكاليات المرتبطة بالتحصيل الدراسي في الطورين الإكمالي والثانوي، عن طريق ضمان مرافقة نفسية بيداغوجية للتلميذ، حيث تتواصل عملية الإرشاد طيلة السنة، لمساعدة التلميذ في التخطيط لمشروعه المهني بناء على ما يملكه من كفاءات وتبعا لمتطلبات سوق العمل. وعموما، يغطي مستشار التوجيه المدرسي والمهني على مستوى الجزائر الوسطى ثانوية وإكمالية، هذه التغطية البشرية والتقنية -برأي محدثنا- تكفل أداء مهمة الإعلام المدرسي من الرابعة متوسط إلى الأولى ثانوي، ومن الأولى ثانوي نحو الثانية ثانوي، لاختيار الشعب المناسبة، إلى جانب مهام تقويم النتائج المحصلة إثر كل فصل دراسي. ويضيف أنّ عملية اتخاذ القرار المتعلق بالمشروع المهني للتلميذ ليست سهلة، نظرا للتأثير الكبير للمحيط الاجتماعي عامة والأسرة خاصة، ونظرا للمكانة الزائدة عن اللزوم التي تحظى بها الشعب العلمية على حساب الإنسانية، ولحسن الحظ، بدأ الوعي بخصوص هذا الأمر يتشكل شيئا فشيئا. ويتابع إجابة عن إشكالية حرمان بعض التلاميذ في بعض المناطق، من خدمة المرافقة التي يكفلها دور مستشار التوجيه المدرسي والمهني، أن لاشك في أنّه كلما كان محيط تدخل المستشار ضيقا كانت الفاعلية أكثر، لأن ذلك يمنح للمستشار حيزا زمنيا أكبر للتدخل، ويتيح للتلميذ بناء مشروعه على أرضية الاختيار الموضوعي. لذا، صار مركز التوجيه المدرسي والمهني للجزائر وسط ينظم كل سنة من شهر أفريل، تحت إشراف مديرية التربية، لقاء إعلاميا للتعريف بالتوجيه، بمشاركة قطاع التعليم العالي والتكوين لإطلاع التلاميذ على عالم الشغل وما ينتظرهم في الثانوية والجامعة، مع الإجابة عن استفساراته، على أمل أن يتحقق طموح تقليص القطاع الجغرافي المسند لمستشاري التوجيه المدرسي والمهني في بعض المناطق، حتى تعم فائدة المرافقة جميع التلاميذ، وتخوّل لهم دراسة تخصصات جامعية تتوافق وقدراتهم ومتطلبات عالم الاقتصاد.