ما الذي جعل السلطات الانتقالية في مالي تغير موقفها من مسألة إرسال قوات أجنبية إلى أراضيها لطرد عناصر التنظيمات المسلحة هناك واستعادة وحدتها الترابية من رفض مطلق إلى ترحيب مطلق؟ وهو تحول محير، خاصة إذا علمنا أن السلطات الانتقالية المالية غيرت موقفها في أقل من أسبوع من النقيض إلى النقيض، حيث سارعت إلى قبول نشر قوة إفريقية عن دول منظمة "الإيكواس" قبل أن يحدث الوزير الأول شيخ موديبو ديارا المفاجأة الكبرى عندما دعا الدول الغربيةوفرنسا تحديدا إلى تدخل عسكري بإرسال طائرات مقاتلة وقوات خاصة إلى بلاده لحسم الأوضاع الأمنية هناك. ولم يكتف المسؤول المالي بذلك فقد راح يحث فرنسا الدولة الاستعمارية السابقة لهذا البلد الإفريقي الفقير على الإسراع في التحرك وأن تكون قدوة للدول الغربية الأخرى باتخاذ الخطوة الأولى من أجل احتلال بلاده تحت غطاء تحرير شماله من قبضة التنظيمات الإرهابية المتطرفة في "وقت قياسي وبطريقة نظيفة". وهو ما يدفع إلى التساؤل "متى كانت التدخلات العسكرية نظيفة؟ وتجارب دول العالم أكدت أن تدخلات محدودة تحولت إلى مأزق وحمامات دماء وعمليات احتلال حقيقية والأمثلة على ذلك كثيرة وما يحدث في العراق وأفغانستان إلا أكبر دليل على ذلك. وإذا سلمنا بأن السلطات الانتقالية في باماكو خضعت أخيرا لضغوط دول غرب إفريقيا المنتمية إلى منظمة "إيكواس" من أجل قبول اقتراحها بإرسال قوة إفريقية لا يتجاوز تعدادها 3300 عسكري فإن ما صعب فهمه في هذا التحول هو دعوة فرنسا إلى القيام بتدخل عسكري واسع النطاق بقناعة أن باب الحوار قد تجاوزه الزمن وأنه لا فائدة منه وأن الحل لن يكون إلا عسكريا! والمفارقة أن دعوة الوزير الأول المالي جاءت أياما فقط بعد مسيرات شعبية شهدتها العاصمة باماكو شارك فيها مئات الماليين للتعبير عن رفضهم لكل تدخل عسكري إفريقي في بلادهم لأن ذلك سيؤدي إلى حرب أهلية بين أبناء مالي فما بالك بتدخل غربي. كما أن هذا الموقف يأتي وقد أبدت معظم دول الساحل اعتراضها على فكرة التدخل الأجنبي لقناعتها أن ذلك لن يزيد الأوضاع الأمنية والإنسانية إلا تعقيدا، بل إن هذا التدخل الذي يبدو في ظاهره محدودا ويخص دولة مالي سيتوسع ليشمل دول المنطقة الأخرى نظرا لشساعة المنطقة واستحالة ضبط عناصر التنظيمات المسلحة الذين يعرفون المنطقة وتضاريسها. وهي كلها عوامل لن تجعل العملية محدودة ونظيفة كما عبر عن ذلك الوزير الأول المالي الذي لا يحظى بإجماع الطبقة السياسية المالية التي طالبته مرارا بتقديم استقالته بقناعة أنه ليس أهلا لإدارة أزمة بحجم الأوضاع التي يشهدها هذا البلد. وربما يكون هذا الانقلاب في موقف شيخ موديبو ديارا انتقاميا من ردة الفعل هذه ويكون قد أخذ بخيار اللجوء إلى فرنسا حتى يحافظ على منصبه، خاصة في ظل الرفض الذي أبداه الجيش المالي لحد الآن ضد كل فكرة للتدخل وحتى نشر قوة إفريقية في بلاده. وأكد أنه قادر على استعادة المبادرة لو عملت دول غرب إفريقيا على رفع يدها عن شحنات الأسلحة والمعدات العسكرية المحجوزة في موانئها لاستخدامها في مهمة استعادة الوحدة الترابية وأمن البلاد. والمؤكد أن الانقلاب في موقف سلطات باماكو سيفتح الباب واسعا أمام كل الاحتمالات بما فيها الأكثر سوداوية وربما جعل منطقة الساحل "أفغانستان" أخرى.