يأتي الاحتفال بذكرى الفاتح من نوفمبر 1954 تاريخ اندلاع الثورة الجزائرية هذه السنة في سياق جديد ميزه اعتراف الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند بمجازر ال17 أكتوبر 1961، وذلك عشية زيارة مرتقبة له إلى الجزائر في ديسمبر المقبل. هولاند اعترف بالقمع الدموي الذي مورس ضد متظاهرين جزائريين مسالمين...كلمات اعتبرها البعض خطوة هامة وتعبيرا عن مطالب استمرت لسنوات لإخراج هذه الأحداث من طي التجاهل والانكار، فيما لم ير فيها البعض الاخر إلا "كلمات" لاتسمن ولاتغني من جوع، لأنها من الناحية القانونية لاتعني شيئا باعتبار أنه لم يتم الاعتراف بوقوع "جريمة ضد الإنسانية". وكان هولاند قد وعد بفتح صفحة جديدة في العلاقات الجزائرية- الفرنسية خلال حملته الانتخابية واعدا –في حال توليه الرئاسة- بحل ماوصفه ب«كل النزاعات المتعلقة بماضي البلدين بصفة نهائية"، دون أن ينسى التنديد حينها بالاستعمار "بشدة ووضوح". وجاء الاعتراف بمجازر ال17 اكتوبر -والذي كان منتظرا- كأول خطوة يجسد من خلالها الرئيس الاشتراكي المنتخب الوعود التي أطلقها، لاسيما وأن الأحداث المأساوية كان مسرحها المدن الفرنسية وعلى رأسها العاصمة باريس. وجاء الاعتراف على شكل بيان صدر عن الاليزيه قال فيه الرئيس الفرنسي "ان فرنسا تعترفّ بوضوح بالقمع الدموي لمتظاهرين جزائريين في باريس في 17 أكتوبر 1961"، مضيفا أنه "في أكتوبر 1961 قُتل جزائريون يتظاهرون من أجل الحق في الاستقلال في قمع دموي". وتوالت بعدها ردود الأفعال بين مرحب ومتحفظ من هذا "الاعتراف". البعض اعتبره خطوة مهمة ومبادرة جيدة، باعتبارها أخرجت هذه الأحداث من خانة "النسيان المتعمد" أو الإنكار الرسمي المبرمج لجرائم تعتبر الأولى من نوعها في أوروبا من حيث دمويتها وذلك باعتراف مؤرخين أوروبيين. أما البعض الآخر فلم يخف خيبة أمله من هذه الكلمات المحتشمة التي لم ترق إلى درجة تسمية الأشياء بمسمياتها والاعتراف الجلي بأن ماحدث في ذلك اليوم كان "جريمة دولة" أو "جريمة ضد الإنسانية". كما عبر آخرون عن عدم رضاهم، باعتبار ان المطلوب ليس الاعتراف بجريمة واحدة وإنما بكل الجرائم التي جرها استعمار فرنسا للجزائر منذ 1830، والاقتداء بدول أخرى كانت أكثر جرأة في اعترافها بمسؤولياتها عن جرائمها في حق الشعوب التي استعمرتها. وكانت تصريحات لوزير المجاهدين عقب هذا الاعتراف قد صبت في هذا الاتجاه، فرغم ترحيبه به واصفا إياه بالمكسب التاريخي، فانه اعتبر انه من الضروري القيام بخطوات أخرى من الطرف الفرنسي والاعتراف بجرائم السلطة الفرنسية الاستعمارية ككل وليس بجرائم جهاز الشرطة حينها فقط. مشددا على أن الأمر لايجب أن ينحصر في الجانب العاطفي لأنه غير كاف. من جانبه، اعتبر السيد يوسف حداد الأمين الولائي للمنظمة الوطنية للمجاهدين في تصريح ل«المساء" أن اعتراف الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند بمجاز ال17 أكتوبر 1961 مثلما وعد به خلال حملته الانتخابية "أمر جيد". وأشار إلى أن ما قاله هولاند باسم الدولة الفرنسية يعد خطوة هامة لاسيما وأن فرنسا كانت تتجاهل تماما هذه الأحداث، وتتحدث عن بضعة قتلى فقط. لكن محدثنا شدد على أنه رغم أهمية مثل هذه الاعترافات، فإن المطلب الرئيسي الذي ينادي به المجاهدون وكل الشعب الجزائري هو اعتراف فرنسا بجرائمها الاستعمارية، أي الاعتراف والاعتذار عن كل "الأفعال الاستعمارية" التي تمت طيلة احتلال فرنسا للجزائر. فتجريم الاستعمار بالنسبة لمحدثنا هو الهدف الذي ينبغي التركيز عليه، لأن فرنسا التي أصدرت قانونا تمجد فيه الاستعمار مازالت تدعي بأن لهذا الأخير جوانب إيجابية، بينما نعرف نحن الجزائريين الذين قاومنا الاستعمار بشتى الوسائل ودفعنا ثمنا غاليا لاسترجاع الاستقلال، أن جرائم فرنسا ضد الشعب الجزائري لاتمت بأي صلة للحضارة التي تتحدث عنها. ويتساءل محدثنا عن أسباب عدم انتهاج فرنسا لنفس النهج الذي سارت فيه دول مثل ألمانيا أو إيطاليا التي اعترفت بجرائمها الاستعمارية وقدمت تعويضات للضحايا، ثم تأتي اليوم للحديث عن إقامة "شراكة إستراتيجية مع الجزائر". ويبدو أن كلمات هولاند لم تمر مرور الكرام في الساحة الفرنسية فسرعان ما بدأت بعض الأوساط تطرح كيفية استثمار بضع كلمات لما تسميه ب«المقابل الجزائري" لهذا الاعتراف. فمباشرة بعد بيان الاليزيه تعالت الأصوات فاتحة ملف "الحركى"، والغريب أنها شبهت ماحدث لآلاف الجزائريين الذين قمعوا بصفة همجية، بوضع فئة "الحركى" مطالبة باعتراف جزائري لما تعتبره جرائم ضد هذه الفئة! في السياق، جاءت خرجة وزير شؤون قدماء المحاربين الفرنسيين، قادر عارف، الذي سارع إلى مطالبة السلطات الجزائرية، بالقيام ب«خطوة" إزاء "فرنسيي الجزائر" من "الحركى" والأقدام السوداء، الذين لايزالون يحلمون ب«الجنة" التي فقدوها على حد تعبيره. عارف الذي ولد بالجزائر، وهو ابن حركي، قال "إن قلب الصفحة يجب أن يكون مع الجزائر، وهذا يعني أنه يتحتم على الجزائريين القيام بمبادرات تجاه الفرنسيين من أصل جزائري (الأقدام السوداء)، أو الجزائريين الذين يعيشون في فرنسا (الحركى)". واستغل الفرصة للمطالبة بتمكين الحركى من "زيارة بلدهم الأم، والسماح بدفنهم فيه لمن أراد"، مشيرا إلى أن هذه "المسألة تم بحثها مع أصدقائنا الجزائريين ولمسنا لديهم إرادة في الانفتاح على ذلك". من جهته، نفى وزير الخارجية الفرنسي لوران فابيوس أن يكون مطلب اعتذار فرنسا للجزائر عن جرائمها الاستعمارية ضمن أجندة زيارة الرئيس الفرنسي للجزائر المقبلة، بل وزعم أن "الجزائريين لا يفضلون أبدا العودة إلى الماضي". وبدا واضحا أن الفرنسيين رغبوا في التهويل من حدة هذه التصريحات ورفعها الى مستوى أكثر من حقيقتها في سبيل محاولة القيام بما يشبه "الابتزاز"، لكن حقوقيين جزائريين يؤكدون أن ما قاله هولاند ليس له أي أهمية من الناحية القانونية. فهل "الاعتراف لم يعد سيد الأدلة؟" سؤال طرحناه على المحامية والحقوقية فاطمة الزهراء بن براهم فردت بالتذكير أولا بوحشية الأحداث التي عرفها يوم 17 أكتوبر 1962، مشيرة -على سيبل المثال فقط- إلى أن 1500 مفقود خلال هذه المجازر لم يتم إحصاؤهم إلى غاية الآن. وهذا دليل بسيط على القمع الكبير المسلط على المتظاهرين من طرف شرطة باريس.ثم اعتبرت المحامية أن اعتراف الرئيس الفرنسي هولاند ليس له أي وزن قانوني من باب انه تحدث عن قمع لمظاهرات من طرف الشرطة الفرنسية، بينما الأمر يتعلق بجريمة ضد الإنسانية أو جريمة دولة. فلهذان المصطلحان أهمية كبيرة من الناحية القانونية لأنهما يسمحان بمتابعة فرنسا في إطار اتفاقيتي جنيف وروما، لاسيما وان كل ماحدث يوضح بجلاء بان المجزرة هي جريمة ضد الإنسانية لأنها استهدفت "عرقا معينا" وهم الجزائريون، حيث قتلت واعتقلت الشرطة الفرنسية الناس حسب مظهرهم الخارجي، وهذه هي العنصرية بعينها. وبالنسبة للسيدة بن براهم فإنه من الناحية القانونية من الضروري تحديد المصطلحات بدقة من أجل فتح الباب أمام متابعات قضائية لضحايا هذه الجرائم ضد الدولة الفرنسية التي –كما تشدد- هي التي اقترفت حينها هذه الجريمة وليس شرطة باريس وحدها كما توحي به اعترافات هولاند. على النقيض، يرى المجاهد محمد غفير المدعو "موح كليشي" في تصريح أدلى به ل«المساء" أنه كمناضل ومسؤول عايش أحداث ال17 أكتوبر 1961، يعتبر اعتراف الرئيس الفرنسي "خطوة كبيرة جدا"، لأنه اعترف بالمجازر المرتكبة ضد الجزائريين في معركة هي الأخيرة التي شهدتها ثورة التحرير الوطني ووقعت في قلب باريس"عاصمة حقوق الإنسان". يقول محدثنا "لقد اعترف الرئيس الفرنسي أمام الملأ بالمجزرة وشهدائها، وقال أنهم ماتوا بعد القمع، واعترف بالتالي بأن فرنسا قامت بجريمة ضد الانسانية... وهي خطوة تشرف الجزائر وتشرف الجالية الجزائرية في فرنسا". لكننا لفتنا نظر المجاهد غفير إلى أن هولاند لم يتحدث عن جرائم ضد الإنسانية وإنما عن قمع، فرد بالتأكيد على أن القول بوجود "مجازر ضد متظاهرين مسالمين" معناه واضح، مذكرا بأنه قبل اعتراف الرئيس الفرنسي قام رئيس بلدية باريس دولانوي في سنة 2000 بنصب لافتة تذكارية مكتوب عليها أن جزائريين تعرضوا هنا لقمع دموي، والآن توجد 25 لوحة تذكارية مماثلة في بلديات باريس وضواحيها، "وهولاند كرر مايوجد على هذه اللافتات" كما أشار. ولم يتردد محدثنا في التأكيد على انه ضد من يطالبون باعتذار من فرنسا أو ندمها أو المطالبين بالتعويضات قائلا "أنا أعتبر أن الاعتراف كاف، لان فرنسا دخلت بالقوة إلى الجزائر ونحن أخرجناها بالقوة...لكن أن نطلب أموالا أو الاعتذار مقابل شهدائنا فهذا أمر أنا ضده". مشيرا من ناحية أخرى إلى أهمية العلاقات بين الجزائروفرنسا وضرورة وجود اتصالات مستمر بين الطرفين. والأكيد أن ملف مجازر ال17 أكتوبر 1961 يبقى مفتوحا أمام الذين شهدوا الأحداث والشعبين الجزائري والفرنسي والمؤرخين كذلك، ويبدو أن الاعتراف فتح الطريق لإعادة الحديث عن هذا الموضوع، لكنه يبقى جزءا من كل في معادلة التاريخ الاستعماري لفرنسا.