يشرع الرئيس الفرنسي، فرانسوا هولاند، اليوم، في زيارة تاريخية إلى الجزائر تدوم يومين، وتحمل آمالا وآفاقا واعدة في مستقبل التعاون القائم بين البلدين، لا سيما في ظل تطلع الجزائر وباريس إلى بناء مرحلة جديدة في علاقاتهما المتميزة وتكريس الشراكة الإستراتيجية التي تجتمع كل العوامل المواتية لتجسيدها اليوم، بما فيها مفاتيح الملفات الشائكة التي ظلت تشكل حجر عثرة في مسار دفع هذه العلاقات، وفي مقدمتها الملفات المرتبطة بالذاكرة والتاريخ المشترك. فكافة التحاليل التي تصاحب هذه الزيارة الأولى من نوعها بالنسبة للسيد هولاند إلى الجزائر بعد توليه السلطة في فرنسا في ماي الماضي، تلتقي في وصف الحدث بالتاريخي، على اعتبار أنه يأتي ليكلل مسارا طويلا وجادا من النقاشات والمفاوضات بين المسؤولين الجزائريين والفرنسيين سواء في إطار عمل لجنة متابعة ملفات التعاون الاقتصادي بين البلدين التي انتهت إلى ضبط قائمة من المشاريع الاقتصادية الهامة التي تم بعثها بالشراكة بين مؤسسات البلدين، أو من خلال الزيارات المتعددة والمتبادلة لمسؤولي البلدين لاستكمال النقاط التي ظلت عالقة بين البلدين تحضيرا لزيارة اليوم. كما يجد الطابع التاريخي للزيارة معناه أيضا في كونها محاطة بحالة من الترقب الشديد حول ما سيدلي به الرئيس الاشتراكي من تصريحات حول ملف الذاكرة والتاريخ ومرحلة الاحتلال الفرنسي للجزائر، وهو الذي تحلى بشجاعة لم يسبقه إليها غيره من المسؤولين الفرنسيين عندما اعترف صراحة في أكتوبر المنصرم بمسؤولية فرنسا في الأحداث الشنيعة التي راح ضحيتها مواطنون جزائريون بباريس في 17 أكتوبر 1961. الأمر الذي يدفع الكثير من المترقبين لزيارته اليوم إلى الجزائر إلى اعتبار أن أقوى المحطات في هذه الزيارة ستكون عندما يقف الرئيس فرانسوا هولاند وقفة ترحم على أرواح الشهداء بمقام الشهيد وأمام النصب التذكاري لموريس اودان بالعاصمة. ولم يخف في هذا الإطار مسؤولون قدماء في فيدرالية فرنسا لجبهة التحرير الوطني توقعهم لخطوات أكثر أهمية من الرئيس الفرنسي بمناسبة زيارته اليوم إلى الجزائر، فيما يؤكد المؤرخ الفرنسي المختص في حرب الجزائر بنجامين ستورا بأنه يترقب مستقبلا خطوات أكثر جرأة من الرئيس الإشتراكي، قد تأتي في خطاب يكشف فيه الطبيعة القمعية للنظام الاستعماري. فهل سيكون ذلك خلال خطابه المقرر صبيحة غد أمام نواب غرفتي البرلمان الجزائري بقصر الأمم بنادي الصنوبر؟ وبعيدا عن كل التأويلات والقراءات السياسية التي أعطيت أو ستعطى لهذه الزيارة، يبقى أن أهم شيء يحمله الحدث هو أنه يأتي للتأسيس لمرحلة جديدة في مسار العلاقات الثنائية، حيث يتطلع البلدان إلى تتويج التقارب الذي تم تحقيقه في الأشهر الأخيرة بإرساء شراكة استراتيجية استثنائية، بإمكانها تعويض مشروع معاهدة صداقة التي كانت مقررة بين البلدين، لاسيما وأن كل المعطيات التي تميز الساحة الإقتصادية في الفترة الراهنة، تؤكد إمكانية تجسيد البلدان لعلاقات شراكة مبنية على نظرة براغماتية وهدف واحد هو الربح المشترك. فالرئيس عبد العزيز بوتفليقة كان صريحا في التعبير عما تنتظره الجزائر من فرنسا هولاند عندما أكد في حواره الأخير لوكالة الأنباء الفرنسية بأن الجزائر تريد علاقة قوية وديناميكية مع فرنسا قائمة على كثافة الروابط والمصالح التي تجمع البلدين، داعيا إلى بناء علاقات شراكة مربحة للطرفين، وتتعدى العلاقات التجارية المحضة. ومن جانبه أيضا، أكد الوزير الأول السيد عبد المالك سلال أن الجزائر تأمل بمناسبة زيارة الرئيس فرانسوا هولاند، بناء علاقة مع فرنسا تتجه كل الاتجاه نحو مستقبل خال من المفاهيم البالية، مشيرا إلى أن الطرف الجزائري ينتظر أن تفتح هذه الزيارة مرحلة جديدة في العلاقات بين البلدين تكون مبنية على الصداقة والتعاون. وشدد السيد سلال على أن الجزائريين الذين يفتخرون بماضيهم وبثورتهم التحريرية الوطنية، لا يستطيعون نسيان ماضيهم، غير أنه اعتبر ذلك لا يعيق دخول مرحلة تاريخية جديدة، في العلاقات بين البلدين، يتم التركيز خلالها بشكل أكبر على بناء المستقبل. وفي حين أكد إرادة الجزائر في التوصل مع فرنسا إلى عقد صداقة وتعاون يبني المستقبل بين البلدين، ذكر السيد سلال بأن التعاون بين الجزائروفرنسا لم يبدأ اليوم وإنما منذ سنوات، مشيرا إلى أن إحدى ثمار هذا التعاون التوقيع اليوم بمناسبة زيارة هولاند على عقد الشراكة بين شركة "رونو" للسيارات والشركة الوطنية للسيارات الصناعية. كما ذكر المتحدث بالتقارب الحاصل بين البلدين حول العديد من القضايا الدولية المطروحة، ومنها على الخصوص الوضع في الساحل والتزام الجزائروفرنسا معا بمكافحة الإرهاب في هذه المنطقة ومساعدة القوات الإفريقية المشتركة على الأرض، مسجلا في هذا الصدد بأن هذا التوافق في الأهداف المرجوة من هذه المسائل لا يمنع الجزائر من التشبث بمبادئها الأساسية، وخاصة منها عدم التدخل في الشؤون الداخلية لبلد آخر. وبرأي الخبراء من البلدين فإنه مهما قيل في وصف زيارة العمل التي يشرع فيها الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند إلى الجزائر اليوم، فإنها تبقى تشكل إشارة لاستئناف الحوار بين البلدين بعد سنوات من الجمود وسوء التفاهم والشكوك المثارة حول جدية كل طرف في دفع العلاقات، لا سيما في ظل توفر الظروف والمناخ الأنسب لاستئناف هذا الحوار وحل نقاط الخلاف العالقة، بعد انتخاب هولاند رئيسا لفرنسا. وتجدر الإشارة إلى أن فرنسا تعد أول ممون للجزائر بما قيمته أكثر من 7 ملايير دولار في سنة 2011، غير أن حجم الاستثمارات الفرنسية في الجزائر يعد بعيدا كل البعد عن الأرقام التي تمثلها هذه الإستثمارات في الدول الاخرى للمغرب العربي. وقد شكل هذا الوضع محل انتقادات الجزائر التي طالبت باستثمارات منتجة مرفقة بتحويل التكنولوجيا، الأمر الذي دفع البلدان إلى وضع خطة محكمة لضبط مجالات محددة لدفع التعاون الاقتصادي، مع إنشاء لجنة مشتركة لمتابعة تنفيذ هذه الملفات في 2011، ترأسها عن الجانب الفرنسي الوزير الأول الأسبق جان بيار رافاران وعن الجانب الجزائري وزيرا الصناعة والمؤسسات الصغيرة والمتوسطة وترقية الاستثمار السابق والحالي (السيد محمد بن مرادي والسيد شريف رحماني). وقد عملت هذه الهيئة على تهيئة الأرضية للملفات الاقتصادية الكبرى التي هي محل تفاوض منذ أكثر من سنتين، وتم التوقيع على غالبية الملفات المدرجة في هذا البرنامج والتي قدر عددها بنحو 20 ملفا، فيما عدا قليل منها لم توقع بعد، ومنها ملفا مصنع "توتال" ومصنع السيارات "رونو" وهما المشروعان اللذان ترك الفصل فيهما لرئيسي البلدين خلال لقائهما اليوم.